لوحة قاتلة- الفصل الاول

الفصل الاول
لو اعتبرنا أن عمر الإنسان يحسب من خبراته في الحياة فشريف بدأت حياته منذ تلك الحادثة التي تذكرها في المعرض و هي حدثت منذ عدة أسابيع في حي من أحياء القاهرة الممتلئة بالسكان ، فقد كان شريف يتدلى من شرفة في الدور الخامس في مبنى متهالك و يصرخ بأعلى صوته الذي طغى عليه أصوات الباعة ، وصرخات السيدات المعترضة على الأسعار و ضجيج  الشارع ، و أبواق السيارات المحملة بالخضار القادمة من الوكالة ، و بعض الأطفال الذين يلهون بكرة متهالكة ، يتصارخون كلما اقتربت من مرمى مرسوم بقطعة من الطباشير.
 كل هذه الأصوات ابتلعت صوت شريف المتدلي من الشرفة و الذي يمنعه من السقوط يد ممسكة بقدمه .
سأل  صاحب اليد التي تمنعه من الموت سؤاله :
" مين إللي خلاك ترسم الرسمة دي "
و يسأل صوت آخر بجواره :
"مين إللي بعتك لمهدي باشا "
يرتجف شريف و يقول :
" والله ما في حد  ، ارحموني أنا ما عملتش حاجة غلط "
يتبادل الرجلان النظرات ثم يفلت صاحب اليد قدم شريف و يجريان نحو باب المنزل و منه إلى السلم ثم مدخل المنزل المطل على الناحية الأخرى من السوق و يسمع الرجلان صراخ عال لسيدة تولول:
" يا لهوي ، يا لهوي ، الحقوني و النبي ، الحقوا الراجل "
يسرع الرجلان إلى نهاية الشارع فيدلفان إلى سيارة تنتظريهما و تنطلق بهما إلى خارج الحي الشعبي و يعتبر الرجلان أنهما أتما مهمتهما على أكمل وجه و عادا إلى مهدي بك ليطمئنانه أن المهمة تمت بنجاح .
كان الله مع شريف حين اختار مهدي باشا هذا الحي الشعبي لكي يتخلص من شريف ، لأن هذا الحي كما زعم مهدي سيلتف حول الضحية و يبكي عليها و لن يبحث عن القاتل إلا بعد فوات الأوان ، و أيضا لن تصل الشرطة إلى أي من رجاله لأنه اختار شقة مخصصة إلى الاستخدام اليومي و التي يؤجرها صاحبها لشباب الجامعة لأغراض غير شريفة ، بل ويوفر لهم الفتيات إن أرادوا.
كان الله مع شريف في ذلك اليوم ،  فعلى الرغم من سقوطه من الدور الخامس إلا أنه سقط أولا على حبال غسيل التي تحملته قليلا ثم تقطعت و اسقطته على تندة كبيرة وضعها صاحبها بشكل مناف للذوق العام و ،  لكن من المؤكد أن صاحبها حصل على أموال يريد أن يظهرها إلى الجميع  ، انزلق على هذه التندة ثم منعته بعض أسلاك الهاتف و الديش و الزينة من السقوط العنيف بحيث سقط في النهاية على عربة فاكهة ممتلئة بالبطيخ الذي تدحرج كله و سقط على بائع البطيخ و الذي سقط بدوره  قرب سيدة بدينة تشتري منه ، أسقطها فولولت لكي يساعدها الناس على النهوض و يساعد بائع البطيخ العجوز الذي يبعده عن قبره ستر من الله.
نظر الناس إلى المنظر العام ولم يتخيل أي إنسان في هذا السوق أن هذه الفوضى حدثت بسبب سقوط شخص من الدور الخامس و لكن التحليل المنطقي الوحيد هو تعثر هذا الشخص و سقوطه على عربة البطيخ .
نهض شريف عن الأرض وهو يزيل عن ملابسه بذر البطيخ و ينفض بعضا من المياه الحمراء و قد أسعده أنها ماء بطيخ و ليست دما .
لم يلاحظ أحد من المارة شريفا حيث كان تركيزهم منصبا على الرجل العجوز والسيدة التي سقط عليها ، خاصة و أن السقوط دفعه بعيدا ، تمكن شريف من أن يسير في اتجاه منزله دون أن يسأله أحد عما حدث و كأنه ورقة سقطت من شجرة و سكنت على الأرض.
استخدم شريف ماء ميضة أقرب مسجد من السوق ،  تبرع أحد المصلين بمنديله ليمسح بذر البطيخ عن ملابسه ،  آثار هذا الحدث سخرية شريف لأنه لم يعد يعلم أيضحك لأن الدنيا بخير لأن الناس تساعده بلا شروط أم  يبكي لأن الدنيا فيها كل هذا الشر حيث ألقي به أناس لا يعرفهم من شرفة بغرض قتله!؟
شعر شريف أن الوقت ليس مناسبا لينهار ، فعليه أن يعود سالما إلى مرسمه قبل أن يصادف أحدا من رجال مهدي باشا مرة أخرى.
سار "شريف" وهو ينظر حوله في كل شارع و على كل رصيف ، وشعر أن إحساسا جديدا تولد في أعماقه فاليوم آخر أيام البراءة و أول أيام النضج ، إن ما حدث منذ نصف ساعة سيظل عالقا في ذهنه إلى الأبد ، تمنى ألا  يتكرر ، ظل يسأل نفسه ما الذي جعل الأمور تصل إلى هذا الحد! ما السبب في أن يتحول مهدي إلى وحش يريد أن يقتل فنان مثله ، ظل شريف يتساءل و يضرب كفا بكف و كلما استطاع أن يخرج من فمه زفرة ، خرجت وهو يقول " لماذا  يا ربي "
وصل "شريف" قريبا من مرسمه ليجد "مازن" صديقه الحميم يتحدث مع رجل سمين يرتدي بنطلون ضيق يكاد أن يقسم وسطه إلى نصفين و عليه قميص تكاد أزراره أن تقفز ، و كرشه المستدير يظهر خلف الملابس وكأنه أراد أن ينفصل عن جسده ، كان الرجل يحرك يداه و يشيح بها بجرأة شديدة.
تناهت إلي شريف بعض من كلمات هذا الرجل :
" أنا أريده ضروري ، حنفي بك أصر أن أحضره معي "
تمهل شريف قليلا فوجد  صديقه مازن يومئ برأسه و يحرك يده بإشارات ليُفهمه أنه لا يريده أن يظهر في الصورة فقام شريف بإلتفاتة جريئة إلى الخلف و بدأ بالسعي نحو نهاية الشارع و تضاربت كل أفكاره .
"ماذا حدث للعالم ، مهدي و حنفي ، كنت أعتقد أن لوحاتي ستفتح لي أبواب الشهرة و المجد ولكنها من الظاهر أنها فتحت لي أبواب الجحيم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ