الفصل السادس عشر ، التضحية بالفنان


(16)
"معرض ، كيف ، أنا سأكون الجيفة التي تأكلها النسور  ،   ألم تكتفوا بمحاولات القتل ، هل يجب أن يمثلوا بجثتي ".
قال شريف هذه الكلمات وهو يمشي في حجرة الضيوف بعد أن فاجأه الجميع بفكرة عمل معرض للوحاته و أن يدعو إليه صفوة المجتمع و تكون هذه هي طريقته إلى الشهرة و لم تعجبه بالطبع هذه الفكرة فهو لا يريد احتكاكا أكثر بالمجتمع ، الذي حاول قتله .
قال عماد :
" هذا هو الوقت الذي ستعرف فيه من هم أصدقاءك ، نحن بجوارك و لن نتركك "
ابتسم مازن بسخرية و لمحها عماد وعلم انه يلمح لقصر معرفته بشريف فقال وهو ينظر لمازن في عينه :
" الصداقة و الأخوة لا تتكون بالوقت و لكنها صداقة في الحق ، و أخوة في الله ، أنا لم أعرف شريف إلا من يوم ولكني مستعد إلى الوقوف بجواره ونصرته إلى النهاية ، أنا أقف مع الحق "
قال مازن بثقة وتهكم :
" أفلح إن صدق ".
نظر مجدي لمازن نظرة حارقة لأنه كان يعرف أن عماد لا يكذب و أنه يمكنه أن يضع حياته على المحك لكي يقف في صف الحق ولم يعجبه رد مازن ،  كان سيأخذ موقفا هجوميا من مازن و لكن عماد أمسك بيده ليقول :
" طبعا الأيام دائما تثبت الحقيقة ، ونحن معا حتى نظهرها ، أليس كذلك يا مجدي"
قاطع شريف :
" أنا لا أريد صداقة و لا أيام إثباتا ، أنا أريد أن أعيش في هدوء ، أنا لا أريد إثبات ، أغيثوني ، أشعر أني محاصر و أنكم ستضعونني في وجه المدفع ".
نظر عماد بثقة لشريف و قال له :
" ألم تكن في وجه المدفع منذ عدة أيام ، ألم تتعرض لمحاولات فاشلة لقتلك ، ألم تأتي إلي بعد أن كنت ضائعا ، خائفا لا تريد أن تعود إلى منزلك ، فما الجديد الذي سنضعك فيه ، أرجوك اهدأ و اقلع عن السلبية التي أضاعتك و ستضيعك إن لم تخرج من الشرنقة ، يا شريف ، الحياة ليست كما تتخيل ، و الفن لم يصبح للفن ، فأنت صاحب رسالة و يجب أن توجهها ".
قال شريف بغضب شديد :
" هذا كلام الإعلاميون ، أنا لست سوى فنان ، فنان يا عالم ، أنا أجيد الرسم ، الرسم حياتي منذ طفولتي ، أنا لست صاحب زفت رسالة و لا زفت حاجة ، أنا صاحب مرسم و ألوان ، رسالتي أن أنتج أفضل لوحات "
قام مازن فأخذ شريف بين أحضانه وهو يهدئه وهو أقدر الناس على ذلك و قال له :
"فعلا يا شريف ، لقد تعرضت لمحاولات قتل و كنت وحدك و الآن كلنا معك ، قلتها لك و أقولها مرة أخرى ، لن أتركك أبدا و لكن عليك الإعداد لهذا المعرض الذي اقترحه عماد ، أخرج فيه كل فنك ، أثبت إلى العالم جدارتك و لا تنسى أنك الآن لم تعد وحدك فنحن الثلاثة معك ".
قالها مازن وهو ينظر إلى عيني عماد بثقة ليثبت له  صدقه و صدق مبادئه فهو الشاب الذي مارس الحياة الاجتماعية منذ نعومة أظفاره و تعرف على العديد من المشاهير و المليونيرات ، و أغلبهم من معارف جده الذي عاش و مات سمسارا للأراضي و كان احتكاكه كله بالمشاهير من المجتمع العربي ، بالطبع  ذلك سهل له عمليات السمسرة التي برع فيها،  فكل من المشاهير له نزواته و معظمهم يداوم على السهر و المقامرة و العديد منهم يصيبهم الفلس و يحتاجون إلى  المال في ساعات كثيرة و بطريقة سريعة ولا يهمهم الخسارة و كل ما يهمهم هو ماء الوجه كما أنهم يقدرون السرعة فالوقت لديهم ثمين جدا و سرعة الاستجابة غالبا ما تكون هي العامل الأهم في كل صفقاته مع المشاهير.
كان جد مازن مصليا و حاجا و لكنه ذلك لم يمنعه من حضور مجالس موائد القمار ليستفيد من شراء بعض من ممتلكات الخاسر بأبخس الأسعار ، ثم يقوم بعرضها بعد ذلك على الرابح في ليلة أخرى و بأعلى الأسعار ، ذلك ما تربى عليه مازن ، فقد تعلم أن يستفيد بكل فرصة أمامه ليحيلها إلى مصلحة خاصة به ، ولكنه مارس طرقه المختلفة عن جده في اقتناء الفرص .
أخذ مازن شريف من يده و استأذن عماد و مجدي و قال لهما :
" سأقوم بتوصيل شريف إلى العوامة لجلب لوحاته و ألوانه و أدواته ، كما  سأستضيفه عندي المدة القادمة إلى أن يأتي موعد المعرض "
اعترض عماد بثقة وقال :
" بل سيظل معي في حجرة الضيوف ، احضر ما تريده يا شريف و تعال على الرحب والسعة "
قال شريف :
" سأحضر هنا ، إن شاء الله ، و أكمل لوحاتي ".
على الرغم من سنوات الصداقة مع مازن إلا أنه وثق بعماد و مجدي و شعر أن مازن دفعه إلى ما هو عليه الآن و لم يكن أمينا معه بالقدر الكافي فلم يخبره بما سيواجهه مع اصدقائه الذين دفعه لرسمهم في لوحاته وكان السبب الرئيسي لطورات الاحداث و لكنه لم يكرهه فهو صديقه الوحيد طوال حياته  ولا يشعر بالراحة إلا معه.
سمع مازن الجملة و لم يعلق ، فهو يعلم أن شريف سيعود إليه حتما ، لانه كاتم أسراره وصديق عمره وحائط منزله السابق يشهد على ذلك.
ركب شريف السيارة بجوار مازن و سارت السيارة في صمت من الطرفين و راعى مازن شعور شريف في هذه الفترة الحرجة من حياته ، قاد مازن السيارة إلى أن وصل إلى العوامة ليجد شخصا غريبا يخرج منها و معه فتاة ترتدي القليل من الملابس و لديها نظرة غير مريحة و تضع المساحيق الملفتة اللون على شفتيها  و عينيها و يشدها الشاب الذي معها دون أن ينظر ناحيتها ، و كان المظهر العام يدل على أنها فتاة من فتيات الهوى ، فالشاب لا يحترم وجودها معه .
توقف مازن بالسيارة و خرج مسرعا إلى الشاب وقال :
" عفوا ، هل تريد أحد "
لم يجب الشاب و نادى بصوت مرتفع :
" فرحات "
خرج شريف من السيارة ليقف بجوار مازن وهو يتحدث مع الشاب.
قال مازن متعجبا :
" فرحات !! هل تعرف فرحات ".
نظر الشاب بثقة وقال لمازن :
" أعرفه مثلك تماما ، هل تؤجرها بالساعة أم بالليلة "
تخاذلت ركبتي شريف و كاد يسقط ، فرحات يؤجر العوامة للدعارة ، هذا آخر ما كان يمكن أن يفكر فيه ، هذا هو ما قصم ظهر البعير
نادي شريف بأعلى صوته :
" زفت يا فرحات ، تعال هنا ، اشرح لي "
خرج فرحات من الحديقة التي تسبق العوامة وهو محرج قليلا و مصفر الوجه قائلا :
" أهلا شريف بك ، أنا كنت أبحث عنك و لم أجدك ، أنا "
في لحظة واحدة سقطت يد شريف على وجه فرحات و أمسك بشعره و ظل يضربه بكل ما يعتصر قلبه من ألم و كل ما يقلقه ويخيفه ، فهو لم يجرؤ على هذا الفعل طوال حياته ، إنه لم يجرؤ على ضرب أحد حتى  خلال أحلامه ، وكأن الشعور بكبت السنوات ظهر في تلك اللحظة .
ضرب شريف فرحات حتى دميت يده و أفاق ليجد مازن مسكا بيده ، مهدئا له و الناس من حوله ، بين فضولي يريد أن يعرف ماذا يجري ، و بين طيب القلب يريد أن يتدخل لوقف العراك ، و بين مؤيد شاهد الحادثة من البداية  يريد أن يؤدب فرحات ، و بين جار يعلم هذا منذ زمن و فرح بانكشاف المستور.
قال مازن :
" كفى يا شريف ، ستقتل الرجل "
كانت أنفاس شريف المتلاحقة تدخل و تخرج ساخنة و يده ترتعش  
" يا نجس ، هو أنا مت خلاص ، اطلع ..."
قالها شريف وهو يقصد طرده ، لولا أنه تذكر والدته التي أوصته عليه و جلبته إلى مصر لتحمي خادمتها من الفضيحة و العار لأكمل الجملة و طرده من العوامة .
تدارك مازن الموضوع و قال بحزم :
" أنا سأبلغ شرطة الآداب عنك اليوم و سأراقب هذه العوامة ولو حدث هذا مرة أخرى ستأخذ عقوبتك يا .... "
ترك مازن شريف و توقع نظرة شريف التي يعرفها في الأزمات و التي تدل على الثقة فيه و العرفان لأفعاله.
نظر فرحات لشريف و قال الجملة من وراء قلبه :
" أنا آسف يا بيه ، الفقر مصيبة و أنت بعيد عننا و المحتاج يبيع عياله"
أثار رد فرحات غضب شريف فذهب ناحيته ليضربه على وجهه مرة أخرى و لكن فرحات توقع الضربة فقام بحماية وجهه.
" أنا غبت يوما واحدا  يا نجس ، أنت لم تجوع بعد ، ارحم طفلك أن ينظر إلي هذه المناظر ، و كيف تسمح زوجتك بان تقوم بتربيته  بين الدعارة والوسخ "
قال فرحات وهو يحمي وجهه :
" خلاص يا بيه ، ما عودتش أعملها تاني "
كان فرحات يعلم أنه سيفعلها مرة ثانية ، بل مرات ثانية فهو في حوزته مفاتيح العوامة المجاورة والتي يقوم بتأجيرها بالساعة منذ سنوات ، إنه تعود أن ساعات الصباح تكون ملكه و ساعات المساء تكون العوامة ملك أصحابها الذين لا يأتون إلا مساءا ليجلسوا جلسة حشيش و لا يهمهم من العوامة إلا النظافة ووجود معدات المزاج ،  كل هذه الأشياء يمكن لفرحات أن يوفرها بكفاءة ، خاصة و أن شريف يتقوقع ظهرا حين يبدأ لحظات الامتزاج مع الألوان ويرفض أن يرى أي ضيف.
كانت ساعات المساء هي فرصة فرحات في  الكسب الحرام الذي اعتاد عليه ، حتى الحشيش لم يكن مشكلة بالنسبة إليه ، فهو لم يترك مجالا في الكسب الحرام ولم يسلكه ، أمله في أن يجمع أموالا تكفيه لهجرة البلد و هجرة هذا المكان ولكنه في النهاية ، وبعد تفكير أعجبه إقامته في العوامة لأنه تقريبا صاحب المكان و لم يكتف بإعداد جلسات الحشيش ، بل بدأ في الاتجار به و بأنواع أخرى من المسكرات و مذهبات العقل من حبوب ومواد كيميائية وكلما زاد غياب الوعي عن الناس كلما اغتنى.
اصبح حلم فرحات ان يمتلك ملهى ليلي لانه رأى من فتيات الليل و الفقر وسيلة مربحة وطريقه للمال السهل وان كان مدنسا فهذا من وجهة نظر فرحات ، لا يعيبه.
أمسك مازن بيد شريف وقال :
" أحضر ما تريد من الداخل و أنا سأقوم بعمل محضر لفرحات في قسم الشرطة ، لا تقلق "
أسقط في يد فرحات فهو يعلم أن شريف فنان منطو ولا يقوم بأي عمل سوى الرسم ولكنه اندهش من تدخل مازن ، نعم هو صديقه و لكنه لم يكن ليهتم به و باحواله في الماضي ، كان ياتي ليقضي بعض الوقت معه  ، ابتسم فرحات وقال لمازن ممازحا:
"يا بيه ليه الأذية ، مرة تفوت ولا حد يموت ، أهي شقاوة عاوز منها قرشين ، وانت عارف شباب الجامعة ، نصفهم عرفي ، يعني في الحلال يا بيه مش باغضب ربنا يعني "
أجاب مازن :
" أنت سافل ، و لا يحميك من الأذى إلا ذكرى كاريمان هانم فقط ، لولاها لكنت على الرصيف من سنوات "
قال فرحات ما يعتمل في صدره طوال سنوات إقامته معهم :
" الله يحرقها ، جوزتني الهبلة دي ، مين قال أنا بتاع جواز ، قال ذكرى كاريمان قال ، ده أنا مـش طـايق سيريتها ".
قبض مازن على ملابس فرحات بقبضته اليسرى و أخرج هاتفه المحمول و تحدث :
" معتز ، تعال عند عوامة شريف ، و معك قوة ، محضر تلبس و اتجار بالحشيش ".
نظر بعدها لفرحات وقال :
" كاريمان هانم الله يرحمها هي أمي ، أنا تعلمت منها الأخلاق ، جعلت مني رجل محترم ، لا تذكر اسمها على لسانك القذر مرة أخرى "
لم يحب مازن فرحات طوال حياته و كان يشبهه بالأفعى السامة و نظراته لم تكن مريحة ، و طالما أراد أن يتسبب في طرده و "قطع عيشه" و لكن حانت اللحظة .
نظر مازن لزوجة فرحات و أخبرها بأن تستعد لكي يأخذها هي وابنها للمعيشة في فيلا أهله حتى ينتهي من قضية فرحات .
كانت لحظات سعيدة لزوجة فرحات التي لم تحبه يوما وكانت تعيش معه لانه الاختيار الوحيد وكم من الايام التي تشاجرت معه بخصوص الحرام والحلا ل ولم يكن يوما يشعر بشعورها فهو منغمس في الحرام ولم تتزوجه إلا لينشأ ابنها في كنف الحلال و لا يطلق عليه ابن حرام
في لحظات كانت الزوجة حامله كل ما تمتلك من ملابس في ملاءة قديمة معقوده ومعها ابنها ، ثم وقفت تنتظر الخروج وهي متجنبه النظر الى وجه فرحات.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

الاولويات تقلل من الحوادث بس للي مش معقد من حياته

يجب التمهيد لوجود برص في البيت