الفصل الرابع ، قلب منير ام قلب مرتجف


 (4)
في حجرة حنفي الفخمة و في أشهر مستشفى خاصة  بمصر جلس الرجلان اللذان ألقيا بشريف من السيارة على كراسي في غرفة الاجتماعات ، و قد امتقع  لون وجهيهما حيث أصبح أبيضا يميل إلى الصفرة  نتيجة فشلهما في مهمتهما و ظلا يعتذران لحنفي باشا حتى جف حلقيهما
طلب "علي" الرجل الضخم كوبا من الماء ، نظر علي لحنفي مدير المستشفى وهو غاضب و تذكر حين كانا يلهوان معا في طفولتهما في بلدتيهما  بالقليوبية وهما صغيران و إن كان حنفي يكبره ببضعة السنوات ، وقد يكون هذا ما أعطاه دائما القيادة والسيطرة ، إضافة إلى الشخصية الصلبة  والعنيدة والتي تعلم هدفها بالتحديد مثل معظم أهل قريته.
كان و مازال "علي" التابع الأمين ل"حنفي" على مدار نصف قرن ، لكنه خذله في هذه المهمة البسيطة جدا من وجهة نظر "حنفي" . إن "علي"  لم يعد يقلق من الموت و الدم لأنه منذ سنوات عاش يرتزق من الأموات و يعبث في دمائهم.
بدأ حنفي حياته العملية بأن باع كليته بعد أن فشل في دراسة الطب و استثمر هذه الأموال في تجارة الأدوية المهدئة و المسكنات و أدوية الكحة و المنشطات ، ودفع ب"علي" إلى العمل في الصيدليات ، ليقوم بالحصول على الأدوية المحظور بيعها كمخدر أو منشط ، و من ثم يقوما ببيعها إلى طلبة الجامعات الراغبين في السهر للمذاكرة أو المهدئات لمن فقد أعصابه قبيل الامتحانات و أما  أدوية الكحة المهدئة فكان يبيعها إلى المنحرفين.
كان "حنفي"  من الذكاء بحيث جعل صديقه "علي"  مقتنعا في كل مرة أن الفكرة ليست فكرة صديقه حنفي ولكنها فكرته الخاصة و أن  "حنفي" مجرد  أداة في يده و نتيجة عقله الفاسد و قبل البدء في أي عملية يصر على قول جملة تؤنب ضميره ، ثم  يسرع بإخراج بعض من الأموال المتبقية من عملية سابقة ، يقدمها له حتى  لا يعيد   النظر في فكرة الإقلاع عن الشر. كان أيضا يذكره بأنه باع كليته لكي يضمن مستقبليهما معا في كل مناسبة و كأنه طوق حول رقبة "علي" لكي يضحي بكل غال و رخيص لصالح صديق عمره و رئيسه حنفي.
قال علي:
" أنا ألقيت به من السيارة  حين رفض إبلاغي بأي معلومة و اعتقدت أن المسافة بيني و بين السيارة من خلفي قريبة بالدرجة الكافية لقتله"
ظل حنفي يشرب السيجارة الموجودة بين أصابعه الصفراء التي تلونت من كثرة احتكاكها بالنيكوتين و لم ينفعل لأنه لا يريد أن يخسر رفيق عمره و نظر مرة أخرى إلى الصورة المرسومة له وهو ممسك بالقلب في يده و تذكر أول مرة قام فيها ببيع قلب بشري .
لم يكن حنفي يتخيل يوما أنه سيكون بهذه القسوة ولكنه لا  يريد أن يعترف بينه و بين نفسه أن الحاجة هي السبب في انتقاله من شاب  طموح فشل في دراسة الطب إلي بائع للأجساد البشرية ، بل كان يعتبر أنه تاجر ، لا يزيد عن التجار في شيء ، عدا أن تجارته تعتبر أقرب لتجارة القواد الذي يبيع أجساد الفتيات ، مقابل المال ، وكلما نزع ضميره للاستيقاظ حلل تجارته لنفسه بأن القواد ينزع من الأجساد الكرامة مقابل المال  بينما هو يعطي الأموال لترتد إلي الأجساد  كرامتها .
ظل حنفي يتساءل ، هل من رسم هذه اللوحة يعرف بماضيه ، هل يعلم أن بداية ثروته جاءت من بيع قلب بشري إلى والد طفل ثري ، يريد أن يرى بذرته تنمو أمامه ، و لماذا رسمه ممسك بقلب و في عينيه نظرة  الانتصار ، إنها نفس النظرة التي كانت في وجهه حين استلم المبلغ المتفق عليه من الثري ، عجبا لذلك الفنان ، لقد دخلت صورته إلى أعماق تاريخه و أعادت إليه صفحات لم يكن يريدها أن تظهر.
قطع علي حبل أفكاره قائلا  بسذاجته المعهودة
" ما الذي يقلقك من هذا الفنان ، إن رسمه جميل "
نظر علي إلى حنفي ، شريكه في كل الجرائم ، و ابتسم ظنا منه أن هذا التعليق قد يذيب رهبة الموقف ، ولكن حنفي لم يبتسم و أظهر علامة امتعاض على وجهه ، فهو أذكى منه بكثير ، و أخبث .
قال الرجل الآخر " سليمان " الواقف بجوار علي و الذي التقطه حنفي من قائمة السوابق لكي يفتح له صفحة جديدة و يبعده عن "سكة الحرام " و لكنه على النقيض ، استغله في نفس "السكة الحرام " و أرسله في المهام القذرة فقط و بالطبع فإن " سليمان" علم أن اللوحة فيها تلميح لحدث كان القلب يمثله ، و بذكاء المجرمين الفطري ربط هذه الصورة بماضي " حنفي " ، خاصة و أنه لم يشعر يوما أن حنفي هذا من أصل شريف و وسط محترم ، ف"سليمان" تعامل مع كل أنماط البشر و احتال على العديد من الشرفاء في هذه الأوساط ويعلم أن سلوك أولاد الناس لا يكون بالعنف و الانتقام الدموي .
قال " سليمان" لتهدئة  " حنفي " و تهدئة الأجواء :
" أظن يا دكتور إن مقصد هذا الفنان أنك محي القلوب و صانع المعجزات ، لأن الشركة التي تمتلكها تصنع أفضل أدوية للقلب ، ولذلك ليس من الضروري أن تتسخ يداك بدماء فنان ساذج أراد أن يرضيك "
أعجب حنفي بالرد و خاصة حين لقبه بالدكتور ، فهو يعلم تماما أنه ليس طبيبا و ليس دكتورا و لكن شهادة الطب المزورة التي حصل عليها بالمال هي الجديرة بهذا اللقب.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

الاولويات تقلل من الحوادث بس للي مش معقد من حياته

يجب التمهيد لوجود برص في البيت