الفصل الثامن ، عزيز قوم ذل


(8)
جلس والد مجدي أمام التلفزيون على كرسيه البرجير الأصيل المتهالك على ما تبقى من سجادة عجمي أصيلة   اشتراها جده من مزاد بالكثير من الأموال التي لم تشفع لأحفاده ، ظل يردد الأب :
" نعم ، نعم ، السياسة قذرة ، دائما الانتقام الشديد ، قانون الغابة سائد في كل العالم " 
أثبتت الظروف لوالد مجدي ذلك ، فلولا السياسة لظل في قمة المجد هو و أسرته ، فهو لم يتمكن من إتمام تعليمه الجامعي في انجلترا نظرا  لعودته السريعة لتفقد حال والده الذي فقد اتزانه العقلي بعد التعرض إلى الضغوط الكثيرة من قبل بعض الضباط الذين أساءوا بشدة إلى الضباط الأحرار.
دق صوت جرس الباب ولم يسمعه ، فهو يعاني من ضعف السمع ولديه صعوبة في تبين صوت الجرس على الرغم من أن مجدي تعمد وضع جرسا عالي الرنين خصيصا لكي يسمعه والده .
سمع الأب الجرس بعد فترة وجيزة فقام من كرسيه بنشاطه المعهود فهو مازال يسير يوميا أكثر من خمسة أميال ، ويصر على حسابها بالميل ليؤكد لمن حوله أنه تعلم في انجلترا .
لم يرد مجدي أن يفتح بالمفتاح لإعطاء والده الفرصة للاستعداد فهو من محبي إتباع التقاليد و أهمها ألا تفاجئ أصحاب البيت بزيارات غير مرتبة.
وصل والد مجدي للباب و فتحه ليجد مجدي ومعه رجلان ، يراهما لأول مرة على الرغم من أن أحداهما هو عماد ، رئيس مجدي و صاحب عمله .
قال مجدي بتلقائية :
"هاي دادي"
فأجاب والده بلكنة تصحيحية انجليزية :
"هاللو ".
نظر والده إلى الضيوف و رحب بهم :
" تفضلا ، أهلا بكما ، من هنا "
و أشار إلى ما تبقى من الصالون ،  الصالون الذي استقبل الكثير من الوزراء و أعضاء الحكومة ، الذين جاءوا ليتوددوا إلى صاحب القصر ليقربهم إلى الملك ويساعدهم في إقناع الملك ببعض القرارات.
كان هذا الصالون يشغل أكثر من خمسين مترا و به سجادة استوردها الجد من استانبول مخصوص بالحجم الكبير ولكن التخطيط العمراني تسبب في نقص المساحة إلى النصف.
تفحص عماد منزل مجدي و طريقة حديثه هو ووالده و العفش العتيق الأصيل طوال فترة سيره إلى الصالون و كان يريد أن يمعن النظر في لوحة على الجدار ، شك أنها لوحة أصلية من فنانو عصر النهضة و لكنه استحى من أن ينبهر بمنزل سائقه .
أما  شريف فكان على عكس عماد ، لم يحرج من أن يعلق على كل ما رآه و ظل يسأل مجدي عن اللوحات المختلفة ولكن الإجابة كانت تأتي سريعة و دقيقة من الأب الذي يبحث دائما عن ثغرة يتحدث فيها عن أسرته و ماضيها ولم يجد منفذا و ظل يتحدث عن البارون النمساوي ، صديق والده الذي قام برسم بعض اللوحات خصيصا له ، و أنه كان هاربا من أسر الحرب العالمية الأولى و اضطر مجدي أن يقاطع والده ليستطيع أن ينفرد بالرجلين و ذلك بأن سأله عن أي وسيلة إلى الضيافة لمعرفته بأن والده مازال بنفس الكرم الذي تربى عليه ، فهو دائما يشتري بعض البسكويت الجاف (البتي فور) و يضعه في علبه على بوفيه السفرة لكي يقدمه لأي زائر ، حتى لو كان السباك.
قام مجدي ليحضر بعض الأوراق ، لأن دراسته في الحقوق أملت عليه أن يكتب كل شيء حتى يستطيع أن يعود إلى ما كتب لاحقا ، لكي يحلل كل كلمة و يربط الأحداث بعضها ببعض .
بدأ مجدي الليلة بسؤال وجهه لشريف :
"قص علينا الموضوع من البداية "
قال شريف :
" أنا فنان و أردت الشهرة و لذلك فقد فكرت جديا في أن أقوم برسم صفوة المجتمع المصري في لوحات من خيالي ، أضع كل منهم في موضوع يتناسب مع شخصيته ، و لم أكن أتصور أن هذه اللوحات ستتسبب في كل ردود الأفعال العنيفة التي عاصرت بعضها اليوم يا مجدي "
قال عماد :
" ما هي ردود الأفعال التي تتحدث عنها ".
قال شريف :
" محاولتان للقتل من شخصيتان كبيرتان ".
رد عماد بتلقائية :
" يا راجل ، إيه ...  فيلم أكشن و إلا  إيه "
أجاب شريف بعصبية شديدة لأنه استرجع بعض مما حدث :
" أنت مش مصدق ، أمال أنا أعمل إيه "
نظر مجدي لعماد و قال له :
" يا فندم أنا شاهدت واحدة من المحاولات أمام عيني في الشارع ، رأيت بعض الرجال يلقون به من سيارة تسير بسرعة ، و أخذت معلومات عن السيارة التي كان يركبها الجناة ولكن السيارة كانت بلا لوحة أرقام "
جلس شريف الليلة كاملة يقص لمجدي وعماد عن اللوحات و فكرته عن الشهرة  و مجدي يكتب كل ما يقوله و عماد في حالة كاملة من الذهول ، و لم يرتاح شريف  لهذا الاجتماع فهو لم يكن إيجابيا طوال حياته ، مبدأه " ابعد عن الشر و غني له " و لكن لم يتركه الشر و لم يبعد عنه فقد أتى إلى بابه.
شرح شريف لوحة مهدي  و كيف أنه رأى فيه المغامر و المقامر فقام برسمه على طاولة القمار وهو يكسب الأموال الكثيرة و رسمه في اللوحة وهو طفل صغير ينظر إلى نفسه وهو كبير ليرى إنجازاته وكأنه يريد أن يصل له رسالة تقول :
" هل حققت ما صبوت إليه في طفولتك "
لم يعتبر شريف أن هذه اللوحة مسيئة له ،  فهو يعلم أن مهدي لديه كازينو قمار في قبرص .
و أيضا شرح لهم لوحة حنفي صاحب شركات الدواء المشهورة بأدوية القلب و الذي رسمه يمسك بالقلب فيضيئه ، و تعجب لأن ذلك لا يسيء له بالمرة.
سأل مجدي :
" من أيضا قمت برسم لوحات له و تعرض لك في منزلك "
قال شريف :
"كامل الشافعي"
انطلق لسان عماد في لحظة اندهاش :
" عضو مجلس الشعب !!!"
قال شريف ببراءة :
"نعم و ما العيب في ذلك "
قال عماد :
"اشرح لنا اللوحة و وجهة  نظرك ، فأنت تعبث مع الكبار "
قال شريف :
" أبد ا فأنا أراه مجاهدا مناضلا يدافع عن الشعب و الحكومة ، فما من مرة أفتح فيها جلسات مجلس الشعب إلا و أراه يتحدث و يناقش"
نظر عماد لمجدي و قال :
"وجهة نظر سليمة "
أكمل شريف :
" رسمته مناضلا يحمل سلاحا في معركة ويكسب ، و لا أرى فيها عيبا ".
قال مجدي :
" ما لا أفهمه هو ردود الأفعال ، لماذا كانت قاسية"
دخل عماد  في الحديث مقاطعا :
لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار و مضاد له في الاتجاه وهذا يعني أن رد الفعل الذي تم له فعل في نفس القوة".
تحدث مجدي :
" و نحن يجب أن نعرف ما هو الفعل ؟."
لمعت عيون عماد :
" وهذا هو السبق الصحفي الجديد "
قال شريف :
" أنا لا أريد سبقا و لا أريد أن احتك بهؤلاء الناس ، أنا فنان أريد أن أرسم و أعبر عن مشاعري فقط ، أنا عشت سنوات في مرسمي بالعوامة ، لا أتحدث كثيرا و لا احتك بأحد "
قال مجدي :
" و أثبتت لك الحياة الواقعية أن سلبيتك لم تتركك في حالك ، و أرتك الحياة جانبا لم تره في الأشخاص من قبل "
قال عماد :
" من نياتهم يرزقون "
لم يفهم الجملة مجدي و لا شريف ، فكلاهما ضعيف في اللغة العربية ، خاصة أن مجدي كان في مدارس نموذجية تدرس اللغات الأجنبية و لم يساعده والده في أي منهج سوى منهج اللغة الإنجليزية والتي ظل يتحدث بها في المنزل طوال الوقت ليثبت لنفسه و من حوله أنه من الطبقة المميزة المثقفة و أن ثقافته لم تغيرها الظروف الاقتصادية الصعبة.
أجاب شريف ببساطة و براءة :
"نيتي سليمة والله العظيم ".
قال عماد :
ولكن نيتهم هم لم تكن سليمة ، من الواضح أن لوحاتك لم تفهم من وجهة نظرك و لكن من وجهة نظرهم ، وواضح أن وجهة نظرهم ليست بريئة بالمرة وواضح أيضا أن أعمالهم ليست بريئة بالمرة ، فمن يقدم على القتل ليحل مشكلة ، فيجب أن تكون المشكلة أكبر و أقبح من القتل ، و هذا ما أريد أن أعرفه ".
قال مجدي :
" ولكن قد تكون هناك لوحات أكثر تتسبب في محاولات جديدة لتصفيته ".
وجل شريف و عاد برأسه إلى الخلف و سمع دقات قلبه تنبض بشده و كانت كل هذه الانفعالات جديدة عليه ، فقال وهو مضطرب :
" تصفيتي ! هل أنا إرهابي ، ماذا فعلت ؟ ".
قال عماد :
" بل قل ، ماذا لم أفعل ،  فمن الواضح إنك لم تفعل في حياتك الكثير ،  و لم تحتك بكثير من البشر ،  أنك تربيت في منأى عن الشر ، بل و لم تحاول أن ترى الشر في حياتك و بعدت عنه ".
تذكر شريف وهو في المدرسة ، حين كان ينطوي مع كراسته و يرسم وهو في الابتدائي و تذكر حين استخدم بعض من دمائه لكي يكمل صورة و كان في أمس الحاجة للون الأحمر فيها  ولما  لم يجد الأنبوب اللون الأحمر استخدم دبوس في كرسيه لكي يجرح يده فيأخذ من الدم المتسرب من الجرح لكي يكمل اللوحة ، كما تذكر أن لوحاته كانت دائما موضوعة على جدران المدرسة و أن حصة الرسم التي اعتبرها البعض حصة ترفيهية كانت تمثل له أفضل حصص الأسبوع و كانت مدرسة الرسم تلجأ له في المسرحيات التي تعد في المدرسة لكي يساعدها في إعداد الديكور الخاص بها .
شعر شريف دائما بتفوقه على زملائه بقدرته على الرسم و التعبير المميز للوجه فهو قادر على أن يرسم شخصا غاضبا فتشعر معه بالغضب و الحزين تبكي من أجله ، أيضا هو من القلائل الذين يمكنهم التركيز في اتجاهين في نفس الوقت فهو يرسم تفاصيل الوجوه مع تفاصيل دقيقة للوسط المحيط بالأفراد و كأنه من فنانو عصر النهضة الأوروبية.
نظر شريف لعماد وهو يتحدث في صالون مجدي وفكر في علاقته بهذا الشخص الذي تعرف عليه منذ نصف ساعة و يسمع منه انتقاد مباشر عما لم يفعله وهو محق في هذا الانتقاد و لكنه كيف عرف أنه لم يفعل شيئا في حياته سوى الرسم .
ظهرت علامة تعجب على وجه شريف و لاحظها عماد في الحال بحسه الإعلامي وقال له :
" هل ضغطت على الزر الصحيح ؟ ".
قال شريف :
" نعم ، فأنا لا أجيد في الحياة سوى الرسم وهو أكثر من هواية ، فأنا أجده صديق و رفيق حياة "
تدخل مجدي بسؤال المحامي القدير :
" طيب ، كيف وصلت لوحاتك إلى هؤلاء الناس و أنت ليس لك علاقة بالحياة العامة و لا الشخصيات العامة ".
قال شريف :
" مازن هو السبب ، فهو صديق لي من أصل فلسطيني ، تعيش عائلته في مصر منذ الستينيات ، جاءت من غزة ، هاربة من الاستعمار ، خاصة و أن أحد أجداده مصريا ، مما أمكن جده الحالي من الحصول على الجنسية المصرية عن طريق إثبات ملكية لأراض ترجع لأوائل القرن السابق " .
استدرك مجدي :
" و ما دخل مازن بهؤلاء الناس ؟".
" مازن صديقي و جاري من الابتدائي و هو طريقي إلى التفاهم مع الناس لأنه اجتماعي جدا و لديه معارف كثيرة ، حتى أنه يعرف عائلات كل أصدقائنا في المدرسة و يتزاور معهم و أمه صديقة حميمة لمعظم العائلات العريقة المصرية وهو من اقترح علي أن أقوم برسم تلك اللوحات  ، حتى أنه عرض علي أن يشتري لي الألوان و كل ما احتاجه و أن يشاركني في المكسب " .
هز عماد رأسه موافقا ، فهو يعرف أن الأصل الفلسطيني يحتم عليه الشطارة في التجارة ، و من الواضح أن شريف فنان قدير بالدرجة التي أوصلت البعض لأذيته
أكمل شريف الحديث مع مجدي وهو يقول :
" هو من أخذ اللوحات وسلمها لأصحابها و وضع عليها بطاقة بها معلوماتي الكاملة قام بطباعته خصيصا لي مع علامة خاصة بي و قال لي أنني يجب أن أحصل على من يتبنى مهارتي و أنه سيجعلني من أشهر فناني مصر ، إن لم يكن في الوطن العربي كله.
نظرا لأنني ليس لي في هذه الأشياء فقد استخرت الله و توكلت عليه ثم بدأت في رسم اللوحات"
أكمل مجدي السؤال :
" إذا لم تكن تعرف هؤلاء الأشخاص ، فكيف بنيت لوحاتك على هذا الأساس ".
أجاب شريف بعصبية يشوبها الحماس :
" من مازن ، فهو من حكى لي عنهم و أبلغني أن مهدي لديه شركات سياحة مشهورة و سلسلة فنادق و أنه مشهور بجرأته بالإضافة إلى الكازينو الخاص به في قبرص و أيضا قص لي أن حنفي شق طريقه و أستطاع أن يكون شركة أدوية مشهورة بعلاج أمراض القلب و غيره و غيره ".
دخل عماد في الحديث مازحا :
" ده انت شكلك حتشوف أيام !!! ".
لم يضحك شريف و لم يفهم ما وراء الضحك و لكنه رد بقلق :
" أنا ما لي دخل بهؤلاء الناس ، فليدعوني وحدي "
قال عماد :
" زمن الوحدة انتهى يا فنان ، زمن الوحدة انتهي ".
نظر مجدي لعماد و قال له بأدبه المعهود حيث أنه لم يعتبر زيارة عماد له بمثابة رفع التكليف :
" عارف يافندم أنا أشعر أن كل واحد ممن أرسل لهم مازن اللوحات ، مشكلة لوحده "
قال عماد :
" و أي مشكلة ، أشعر أنني لدي ما يشغلني شهور إلى الأمام  ، آه لو كنا في بلد آخر ، فمثل هذا السبق الصحفي يجعل ذكراي تخلد عبر الأجيال و لكن ، أم الدنيا ماذا نقول ، البلد شاخت و الناس شاخت ، حتى السياسة لدينا شاخت "
لم يحب مجدي أن يتحدث عن السياسة و بالأخص في منزله لأن والده مازال يعاني من عقدة السياسة القذرة ومازال يعيش في عهد مراكز القوى و المعتقلات ، و على الرغم من أن مجدي لا يشعر بذلك الآن إلا إنه يحترم رغبة والده في البعد عن المشاكل و لذلك فهو لا يتبنى أي مشكلة من الناحية السياسية و لكنه يتبناها من ناحية العدل البحت.
تردى أصوات آذان الفجر من المساجد القريبة فانتبه عماد لأنه ترك زوجته في المنزل واعدا إياها أنه سيعود ليتعشى و لكن ما سمعه من شريف لم يكن عاديا بالمرة ، فهو متأكد من أن صافيناز ستسامحه على تأخره ، بل و ستساعده في حل طلاسم اللوحات التي أدت إلى هذا العنف ،  فهم مجدي أن الوقت قد حان و أنه يجب أن يصل عماد إلى منزله  فقام و قال لشريف يمكنك البقاء إذا أردت ، فقام شريف أدبا و ذهب معهم في سيارة عماد بعد أن انتهيا من صلاة الفجر .
لاحظ مجدي تغير نظرة عماد له فقد جلس إلى جواره و أزال ما تبقى من التكلف و أصبح يتحدث بحرية شديدة وعند وصولهم إلى المنزل عرض عليهما أن يظلا معه في غرفة الضيوف وهي غرفة أصرت صافيناز زوجته أن تفرشها بأفضل العفش و أن تنظفها باستمرار حتى تطيق مبادئ الضيافة الإسلامية حسب ما سمعت من بعض السيدات اللاتي حضرن درس الدين معها في واحد من المدارس العديدة التي أنشأت حديثا في المنطقة التي تعيش فيها .
قال عماد بثقة :
"زوجتي سترحب بكما لو تفضلتما عندي و فرصة أن نبدأ في تحضير خطة عمل الفترة المقبلة "
لم يصدق شريف أنه بعد أكثر من عشرين عاما من الوحدة أصبح مستعدا إلى الإقامة مع أغراب في منزلهم وهو لم يتعرف عليهم إلا منذ بضعة ساعات و لكن هذه هي الحياة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ