الفصل الثاني عشر ، الجمال الجامح


(12)
في منزل " وجيدة " سيدة المجتمع الراقي و طليقة المستشار عبد المجيد الرافعي  وسليلة باشاوات مصر المحروسة ، جاء رنين الهاتف رقيقا مثل كل ما في الحجرة ، جاءت خادمة " وجيدة" الفلبينية من الداخل لترد على الهاتف بلغة إنجليزية ركيكة :
" يس مادام ، مادام هيير "
تسير  إلى حجرة مطالعة السيدة وجيدة و تنتظر أن تنظر لها سيدتها لتشير إليها و تخبرها عن وجود اتصال هاتفي فهي لا تجرؤ على مقاطعة الجلسة الموسيقية الخاصة بالسيدة وجيدة.
إن وجيدة  لها روتين خاص  أهم ما فيه هو ساعة الأوبرا التي تبدأ من منتصف النهار ، فهي تضع السماعات و تفتح موسيقى الأوبرا و تغمض عينيها لتستمع إلى الأصوات الملائكية كما كانت تصف الغناء الأوبرالي.
ذهبت الخادمة الفلبينية إلى جوارها عندما انتظرت طويلا دون أن تلاحظ وجودها .
اقتربت ووضعت يدها على كتفها لتنبهها ، انزعجت "وجيدة" و صرخت في الخادمة بالفرنسية التي لا تعلم عنها الخادمة شيء:
" كسك تو فوه ، ماذا ! ، ماذا تريدين  ؟ "
أجابت الخادمة بأدب :
" مادام ، فون ، مادام صافيناز "
قامت "وجيدة من كرسيها الخاص بخطوات بطيئة وهي تستخدم عكازا ليساعدها على الحركة و أجابت على الهاتف باقتضاب :
" بنجور صافي ، جو سوي اوكيوبيه بعد إذنك سأطلبك بعد ساعة ".
أغلقت الهاتف ونظرت إلى الخادمة  و تحدثت معها بالإنجليزية هذه المرة بطريقة صارمة :
" لا تقاطعي جلسة الأوبرا أبدا ، أبدا ، نيفر "
تركتها الخادمة لتدخل إلى المطبخ و تكمل طهي الطعام و هي تتحدث بالفلبيني بصوت منخفض جدا ، فتلعن زوجها الذي أرسلها إلى العمل في البلاد العربية لكي ترسل النقود لأولادها في قريتها بجبال الفلبين العالية  ، أنها  تعلم أنه سيقوم بخيانتها مع الفتاة الجميلة القادمة حديثا لقريتهما بعد أن توفي أهلها في الخليج أثر حادث أوتوبيس ،  فالكل لاحظ نظراته لها و لكن ، ما باليد حيلة ، فالموارد قليلة وهو لم يجد عمل في أي بلد و عليها أن تقوم بالواجب تجاه أولادها الخمس و خاصة أنها إذا لم تفعل تركها و ذهب و حينها ستصبح بلا مورد و لا زوج ، فهي على الأقل ستعود بعد عدة سنوات و معها بعض الأموال المتبقية لتستر عائلتها من العوز و تجده منتظرها بعد أن سأم اللهو مع الفتيات ،  ولكن معاملة وجيدة لها جعلتها ترسل خطابا إلى المسئول عن التشغيل ببلدتها ليجد لها عمل بالدبلوم التي حصلت عليه ، فلقد كان أملها أن تعمل في شركة عالمية ، ترد على الهاتف أو تستقبل الزوار فيكون لها بعض الفرص الرومانسية ، بدلا من العمل لدى مطلقة عصبية بلا زوج و لا أولاد .
نظرت " وجيدة " لخادمتها و قالت لها  بلا حياء :
" ستيوبيد غبية ، لا فائدة من تعليمك "
وضعت "وجيدة"  السماعات على أذنيها و أعادت الجزء الذي  كان يغني فيه بافاروتي بعض من أغانيه المتميزة و التي تأخذها فوق السحاب ، فهي من أكثر السيدات رومانسية ، على الرغم من عدم توفقها في الحياة الزوجية .
بدأت وجيدة حياتها كمراهقة متمردة ، لم تراع أي تقاليد أو دين ، كانت تعتنق أفكار الهيبيز و تعتبر أن اللاقيود هي القيود التي يجب أن تلتزم بها و أن عليها الاندماج مع الطبيعة ، فلا الزهور و لا الحشرات عليها أن تقدم تقريرا مفصلا عن حياتها لأهلها و لا عليها تقديم التبريرات إذا أحبت أو كرهت ، و لذلك فقد تركت منزل أهلها إلى الإقامة مع صديقها الفنان التشكيلي و البوهيمي الذي سقاها التمرد  و ساعدها على ذلك والدتها الفرنسية الجميلة جدا والتي تزوجت من والدها لكي تجد من يعيلها بعد أن فقدت ليونتها إثر حادث سيارة و لم تعد تقدر على ممارسة الرقص في النوادي الليلية ، تقمصت دور الفتاة الملتزمة لكي تحظى برجل شرقي يخرجها من فرنسا و تعيش معه ترتشف من شاعرية الشرق و خيراته ،  بدلا من تخبطها في فرنسا بحثا عن الرزق .
نظرت وجيدة إلى اللوحة المرسومة أمامها في حجرتها الخاصة التي هيئتها لتبعد فيها عن العالم و تنفرد بموسيقاها و لوحاتها الخاصة .
إن لوحة  الفنان المبتدئ شريف  وهي تقف أمام جبل و تلبس الملابس الرومانية الشفافة و يحيط بها هالة وكأنها فينوس آلهة الجمال ويطير حولها أطفال مثل كيوبيد يمسكون بأسهم ، كانت رسومه متميزة جدا ، لم تصدق وجيدة أن يقوم فنان بكل هذا المجهود بلا مقابل ،  كانت تنظر لها محاولة أن تفهم ما المقصود من اللوحة ، هل كان يعلم أنها وقفت للعرض كموديل لفنان في شبابها و أنها فقدت عذريتها لهذا السبب ،  فهي كانت تقف بملابس اقل من ذلك في السبعينات إمام حبيبها الذي أقنعها أن الجسم البشري خلقه الله لكي يظهره و أن آدم لم يخلق بملابس
كانت تقف "وجيدة " أمام سمير حبيبها ليرسمها بالساعات و لم تكن أي من لوحاته تعطي أي معنى فلا هو يرسم الجسم البشري و لا هو يرسم ألوانا متناسقة و لم تكن تعلق على لوحاته لأنها لا تريد أن تظهر جهلها باتجاهات الفن المختلفة ، فكل ما يهمها هو اللحظات التي ينتهي فيها من الرسم فيلتفت إليها و يداعبها بأن يقوم برسم بعض القلوب على جسدها الصغير و تستمتع هي بملمس الفرشاة ثم يمارس معها الحب كمكافأة لها للوقوف بلا ملابس في البرد الشديد و الرطوبة العالية .
جلست "وجيدة" تسمع بافاروتي لأكثر من ساعتين ، و آلام الروماتيزم  التي لا تفارقها تمنعها من الاستمتاع الكامل.
لم تنبهها والدتها منذ الصغر بأن تراعي صحتها ليوم الكبر  ، لأن أمها لم تفعل شيئا لصحتها سوى التدمير  فهي كانت تسكر كل يوم و تقيم الحفلات و تلبس الملابس التي تكشف كل جسدها و لا تستيقظ إلا ظهرا و هي ممسكة برأسها اليوم التالي مولولة من آثار الخمور حتى تليف كل كبدها و هزلت و ماتت صغيرة و تركت وجيدة مع الحياة وحيدة .
حتى والدها التركي الأصل الذي جاء جده من تركيا وقت الاحتلال و استقر في مصر بعد أن عب من خيراتها الكثير و استفاد من كونه من رجال السلطان .
لم تكن بينها وبين والدها أي رابطة ، فهو عاشق للهوى و يحب الجمال ، وكل يوم يمر لا بد من أن يبحث فيه عن مغامرة عاطفية جديدة و لم يكن يعلم عن ابنته الكثير .
ابتعد والدها عنها أكثر من مرة ، حتى انقطعت أخباره عنها وهي شابة ونما إلى علمها أنه تزوج فتاة بلقانية جميلة و صغيرة واستقر معها في ضياع  تركيا التي سمعت أنه ورث أحدها عن أحد أقاربه في اسطنبول .
ترك والد وجيدة ابنته الوحيدة في مصر ، و لم تكن تعلم أن لها أملاك في مصر إلا بعد وفاة والدتها لأنه كان قد كتب كل أملاكه في مصر باسمها حين ضبطته وهو يخونها في ليلة من ليالي الصيف الحارة ، علم المحامي بجهل وجيدة لثروتها   فعرض عليها الزواج وأظهر لها كذبا ضرورة التكاتف لنزع ثروة الأب  ولكنها قرنت الزواج بأن يساعدها في الحصول على ثروة الأب .
سافر المحامي عبد المجيد الرافعي إلى تركيا و أقنع الأب بأن يكتب باقي الأملاك من ميراثه للأم  باسم ابنته ليوفر عليه السفر إلى مصر ، و في خلال شهر من المقابلة كانت الثروة في مصر كلها باسمها و أًصبحت وهي صغيرة من أصحاب العمارات و الأطيان ، بالإضافة إلى بعض الأملاك التي  أفرجت الأوقاف عنها من أراض بمساحات واسعة  حول الإسماعيلية و تكية و مسجد في الإسماعيلية و عدة أملاك أخرى لم يطمع والدها أن يحوزها يوما ما ، فهو اعتقد أن الدولة استولت عليها ، حيث كان  جدها من أقارب الخديوي إسماعيل  فوهبه الكثير من الأراضي الجيدة حول الإسماعيلية .
كل تلك الأراضي آلت إليها حسب أصول الوقف و لأن والدها توفى قبل انتقال ملكيتها له و لذلك لم تكن لزوجته الأخيرة نصيب فيها .
تمت الصفقة بينها وبين المحامي الصغير و تزوجته لتأخذ اسمه ، ثم ساعدته في الحصول على أرفع المراكز ووهبته جزءا لا بأس به و تطلقا في حفلة صغيرة ، دون أدنى شعور بالحزن أو الغضب فالاتفاق تم و المصالح قضيت و الكل رابح .
بدأت وجيدة احتراف الأعمال التجارية و ساعدها على الثراء الفاحش دخولها في مشاريع عملاقة مع بعض رجال الأعمال و معظمها مشاريع غير معلنة حتى أن البعض أشاع أنها تغسل أموال بعض أصدقاءها من فرنسا .
سكت بافاروتي و لم تسكت الذكريات المريرة التي كانت تدور داخل ذهن "وجيدة" و ظلت تحاول تذكر اسم شريف بين أولاد من عرفتهم في الماضي ، هل يمكن أن يكون شريف هو ابن حبيبها الأول سمير ، فهي لم تتزوجه و هو لم يرد أن يتزوجها و كان يسقيها بيده حبوب منع الحمل و لكنه تزوج بعد ذلك و أنجب وعاش مثل باقي البشر في شقة ، ولكن ليس له صبيان فهو أنجبت بنات فقط.
نظرت " وجيدة إلى نفسها في اللوحة والضوء حولها و تذكرت حين كانت تظن أن جمالها سيؤهلها لأن تكون من فنانات السينما و أنها ستصبح نجمة مشهورة ، حتى أنها كانت تقف في الحمام تحت الدش بالساعات تتخيل الحديث التليفزيوني و الأسئلة التي ستسألها لها المذيعة و تحضر الرد المناسب و كل هذا لم يكن سوى خيال ، فهي تعرفت على مخرج متزوج في أحد الحفلات الصيفية و تحدثت معه و أحست بإعجابه الشديد بها و بجمالها ، وقررت أن تجعله طريقها إلى التمثيل و الفن ولكنه أعلن لها رغبته في الارتباط بها ولكن بطريقة خاصة بهما  ، فقد وقفا أمام الشمس وقت الغروب وتحدثا مع الطبيعة و أعلنا زواجهما أمام البحر والشمس وجعلاهما شاهدان للزواج ، حتى وثيقة الزواج العرفي التي كتبها المخرج ، وضع فيها الشمس و البحر و قام باستخدام عدسة تجميع لكي تضع الشمس امضاءها و قام بوضع بضعة نقاط من ماء البحر ، ثم وضع الورقة في سلة مليئة بالورود و العطور و ألقى بها لأبعد مكان في البحر.
ظلت وجيدة في العجمي لا تتركه سنوات طويلة تراه في الأوقات التي تسمح بها زوجته الأولى ، التي كانت تعلم بوجود أخرى مغامرة عاطفية أخرى في حياته واعتبرتها نزوة فنان و انتظرت أن يعود إليها في النهاية .
تنهدت " وجيدة " فأحلام التمثيل و الفن ضاعت بين مقابلات متناثرة مع المخرج الذي أحب لقاءها و لم يؤمن بموهبتها و ظهرت مخالب الزوجة التي لم يتمكن المخرج من تركها لأنها تمتلك الاستوديوهات التي يعمل بها و تنحدر من أسرة فنية عريقة ،  قامت هذه الأسرة بتبني زوجها المخرج منذ بداياته و كانت تعلم أن تركه لها يعني حربا مع كل من يتعامل معهم من منتجين و فنانين و لذلك كان رد فعل المخرج هو تركها دون اعتذار و مصالحة مع الزوجة الأصل برحلة العمر إلى اليابان و تايلاند مع سيارة فاخرة كهدية مصالحة.
لم تكن "وجيدة" قد ورثت أموالها بعد ، لم تكن سوى فتاة نصف فرنسية يأمل شباب المعمورة و العجمي من التقرب منها لمعرفته بالثقافة الفرنسية و أنها لن تمانع بعلاقة سريعة مع بعض الحب و الظهور معها في الممشى الذي كان حينها يعتبر أقرب إلى مكان لعرض الأزياء منه إلى شارع  عمومي و كانت فتيات مصر كلها تتبارى في إظهار جمالها و مفاتنها ، أما الشباب فيتبارى بسياراته و مغامراته العاطفية.
قامت "وجيدة"  من كرسيها لتغيير الموسيقى إلى شالازنافور الفرنسي الذي تعشقه ، فهي عاشت في فرنسا فترة من عمرها مع الفرنسيين بعد أن دفعت تذكرتها و إقامتها من أموال المخرج بعد ابتزازه رغبة منها في الانتقام منه لاستغلاله جمالها و عدم تمكنها من التمثيل و بالطبع  تطبعت ببعض الطباع الفرنسية من حدة و شموخ و تعالي ، مع محاولاتها التقرب من المجتمع الراقي هناك لكي تمحي ماضي والدتها في الكباريهات .
ظلت وجيدة على علاقة بباريس و أصبحت تزورها و تقيم فيها بالسنوات ثم تعود إلى مصر لتقيم حفلات العودة و تدعو المستشار عبد المجيد الرافعي ، طليقها لكي تنفذ بعض من الصفقات معه و تدعمه ببعض المعارف الأوروبية حتى تعرفت على زوجها الأخير  في باريس وكان وقتها يعمل بمشاريع حكومية ، وأشيع أنه يتاجر بالسلاح وهو من رجال الأعمال المشهورين بحب المال وقد علم بثروة "وجيدة" التي آلت إليها .
قام بعرض الزواج عليها ، لكنها جعلت العصمة في يدها لكي تحرر نفسها في أي وقت تشعر فيه بعدم تكافؤ الزواج و كانت محقة لأن زواجها منه لم يستمر كثيرا ، لعلمها بمرضه النفسي و عشقه للمال و السلطة و كان يتعمد إذلالها أمام الجميع ثم الاعتذار منفردا لها مع طلب الغفران و التذلل و كانت تريد أن تساعده في التغلب على عقدة النقص في شخصيته
حملت وجيدة من زوجها و أنجبت طفلا مريضا بالقلب ، حاولت علاجه بشتى الوسائل حتى أنها زرعت له قلب طفل سليم ولفظ طفلها القلب المزروع و مات قبل أن يمر العام الثاني من حياته .  
لم تستطع وجيدة الاستمرار في هذه الزيجة ، بعد أن توفى طفلهما  طلقته وعادت إلى مصر مرة أخرى في القاهرة و قررت التفرغ للأعمال الخيرية .
قامت وجيدة من كرسيها و نزعت سماعات  الأذن و أدارت السماعات الخارجية و جعلت  تغني مع شالازنافور بصوت عال حتى أن الخادمة الفليبينية أغلقت الباب عليها .
لم تسمع أي منهما الهاتف الذي ظل يرن حتى مل صاحبه من الرد على الرغم من أن ساعة الانفراد بالنفس انتهت و أن " وجيدة" ظلت في انعزالها لساعات طويلة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ