الفصل الثاني الجاسوس الصامت


جلس مهدي باشا على كرسيه الجلدي الفخم و الذي يرتفع لأعلى رأسه بأكثر من نصف متر و ينظر إلى اللوحة الموضوعة أمام مكتبه بطريقة مناسبة بحيث يراها بوضوح ، جلس ينفث دخان سيجاره بعصبية و يسب في شريف :
" ابن ...... عرف منين !! "
ينظر إلى الصورة المرسومة بالزيت و يتمعن فيها وهي تصف حجرة مليئة بالنساء و في منتصفها طاولة يلعب عليها القمار بعض الرجال ،  تظهر الصورة مهدي باشا في المنتصف وهو  يلملم الأموال من الطاولة ، نظرات الجرأة و الانتصار في عينيه و نظرات الحسرة في أعين الرجال حوله ، وتظهر الصورة أيضا أن السيدات كلهن حوله منهن من تمسك برقبته من الخلف و منهن من  تربت على كتفه وهناك طفل صغير يقف خلف كل هؤلاء الأشخاص وراء باب صغير ينظر إليهم وكان هذا الطفل يشبه إلى حد كبير مهدي .
أعاد مهدي النظر للصورة و أمسك بالهاتف وتحدث مع السكرتيرة بلغة إنجليزية سليمة و لكنة أمريكية صريحة و بغضب ولكن دون انفعال:
أين هم ، أعلميني بوصولهم .”
أرجع مهدي كرسيه إلى الخلف و نظر إلى الصورة كأنه داخلها لم يكن هو نفسه الرجل القوي الذي يجلس في وسط طاولة القمار، بل كان صبي صغير يقوم بخدمة لاعبي القمار و يسقيهم الخمور لكي يسهل سرقتهم ، يتذكر مهدي رائحة الفجر وهي مختلطة برائحة التبغ و الخمور وصوت الآذان الضعيف الذي يسمعونه فيعلمون أن البارتيتة يجب أن تنتهي و أن عليهم العودة قبل ظهور تلامذة المدارس وهو منهم.
كان مهدي طفلا تعيسا بكل ما تحمله الكلمة من معان ، فأبوه السوداني الأصل ترك أمه الأرمنية و هي حامل دون أن يعطيها عنوانه و أسمته أمه باسم سوادني نسبة إلى أبيه ولكنها نسبته بشهادة ميلاده إلى والدها لكي لا يكون بلا نسب.
عاشت أمه كراقصة  من الراقصات المتميزات بالخفة و الرشاقة في كباريهات شارع محمد علي و اعتادت على أن تعيش من جيوب الآخرين و اعتبرت الاستفادة من ثروات الناس هي قمة الذكاء و الاحتراف و دربت ابنها على ذلك و الذي اطلقت عليه اسم مهدي لأنه كان اسمر البشرة مثل والده وجميل الشكل مثل والدته.
كان اسم مهدي من مخططات والدته لكي تشعر الرجال أنها تدين بالولاء لمصر و أنها ليست غريبة عنها ،  نجحت في أن تتزوج شابا صاعدا من شباب الثورة و الذي مكنته اتصالاته أن يستخرج لابنها  بدل فاقد لشهادة ميلاد مصرية (مفبركة) باسم مهدي صلاح الدين عيسى وهو اسم اخترعه زوجها لشخص ادعى أنه كان زميله في الحرب ومات في فلسطين خلالها .
 أصبح مهدي السوداني الأرمني هو مهدي المصري ابن الشهيد صلاح الدين ، وهو ابعد ما يكون عن أي دين و لا أي انتماء لوطن .
سمع مهدي الهاتف فرفع السماعة ليسمع السكرتيرة خريجة الجامعة الأمريكية و التي تتحدث كأنها في نيويورك
" لقد وصلا ، هل أدخلهما ؟"
أجاب مهدي بالموافقة و نظر إلى الباب ليجد الرجلين اللذين ألقيا بشريف من الدور الخامس منذ أقل من ساعة  و هما في منتهى الثقة و راحة البال و الابتسامة مرسومة على وجهيهما مما أكد لمهدي أن المهمة قد تمت بنجاح و لذلك لم يهتم بالسؤال عن الحادث بقدر ما اهتم بمعرفة ما قاله شريف عن اللوحة فسألهما:
" هل قال لكما من أرسله لي أو من طلب منه إعداد هذه اللوحة يا خميس ؟"
أجاب الرجل الأول الممتلئ من الجزء العلوي و نحيل الساقين وهو يظهر على وجهه علامة الاهتمام الشديد:
" لا يا فندم "
اعتاد هذا الرجل "خميس" على الاختصار في الإجابات منذ فترة عمله بالقوات المسلحة ، فعليه تنفيذ الأوامر و الطاعة وليس عليه معرفة الخطط ، على عكس "سعيد" الرجل الآخر الطويل النحيل الذي تعلم من القوات المسلحة أن مصلحته تقتضي التقرب من صاحب السلطة و منافقته قدر الإمكان ،  تلك كانت وسيلته إلى التعايش مع أكبر قدر من الرؤساء و أمكنته من أن يسيطر على "خميس" لأنه من وجهة نظره هو مجرد آلة من الآلات الحربية الناجحة التي أنجبها الجيش و التي لا تناقش و لا تعطي رأيا.
استطاع مهدي تدريب رجاله على الطاعة العمياء فهم من المجندين السابقين أو ممن تم تسريحهم من الجيش ، وتلك كانت طريقة خميس في الطاعة و تنفيذ الأوامر ،  أما " سعيد" فلم يكن ساذجا بل كان ينفذ كل ما يطلب منه مهدي أو غيره ، مع تخزين كل المعلومات التي يمكنه أن يستفيد منها في المستقبل سواء للابتزاز أو للتهديد ، و لذلك تعمد سعيد أن يقول بخبث :
" لقد أوشك أمرنا أن ينكشف فالحي مليء بالمارة وأظن  في الغالب أنه سقط على أحد النساء "
قام مهدي من كرسيه بعنف و انفجر بصوت عال وهو ينظر لسعيد في عينيه :
" تظن  ! هل أرسلتك في مهمة لتظن !  هل أوكلت المهمة لأطفال؟ "
صمت سعيد لأنه علم أنه أثار مهدي  فترك لخميس الرد حيث قال :
" يا فندم نحن ألقينا به من الشقة في الدور الخامس و سقط منها أرضا و ما يقوله سعيد أن هناك امرأة صرخت وولولت ، أما شريف فلم يدل بأي معلومة عن أحد فأيقنت أنه يعمل بمفرده "
تذكر مهدي حين كان يستقي المعلومات من الجنود على الجبهة في أواخر الستينيات و مشارف السبعينيات ، حين لعب السادات ، رئيس جمهورية مصر لعبة الحسم و سنة الحسم ، وكان من المهم معرفة أبعاد السياسة المصرية تجاه الحرب .
تذكر مهدي كيف أن مهمة استقاء المعلومات كانت تتطلب الكثير من الشجاعة و القلب الميت ، وهو لا ينقصه الشجاعة و لديه القلب الميت ، فكيف لا يموت قلبه وقد جعلته أمه يسرق أعز أحبائها ، خلال مداعبتها لها في حجرتها و فراشها ، لكي يوفر لنفسه ثمن تذكرة الطائرة و يرحل إلى فرنسا استكمالا لتعليمه الجامعي !.
كان يردد في قرارة  نفسه كلمات تحثه على السرقة لأنه يريد الهروب من هذا العالم الفاسد الذي وضعته أمه فيه وهو يشعر بغصة في حلقة و ألم في معدته ، كان هذا الألم يتكرر كلما قام بعمل مشين يكرهه .
كل هذه الذكريات و كل تلك الآلام أعادتها له لوحة شريف بما فيها الألم ، نظر إليها مرة أخرى فوجد نفسه داخل اللوحة يجمع الأموال و ينظر إلي من حوله بنظرة ثقة و في نفس الوقت يجد نفسه ناظرا من خلف الباب وهو طفل بريء ، يرى الفساد و يشعر به يسري كالسم في فقرات ظهره .
كان مهدي يهرب من ذكريات طفولته البائسة السيئة  إلى أنحاء العالم كله، هرب منها إلى فرنسا ، بلد الحريات كما أطلق عليها الناس و لكنه لم يظل بها حرا ، بل باع نفسه إلى الشيطان و أصبح محترفا في كل ما هو لا أخلاقي.
هرب من الفساد الذي نشأ فيه لينشئ لنفسه عالما آخرا أكثر فسادا، يبيع فيه كل شيء ، حتى باع مصر نفسها ، دون أن يشعر بتأنيب الضمير ، برر لنفسه بأن دمائه ليست مصرية ، على الرغم مما هو ثابت في الأوراق .
أفاق مهدي من ذكرياته وأشاح بوجهه عن اللوحة لينظر إلى الرجلين وقال:
" أرسلتكم لتعرفوا من ورائه ثم تلقون به و لم أرسلكم لتلقون به دون أن تعرفوا من ورائه "
أجاب خميس بنفس النبرة التي يجيدها وكأنه على الجبهة و يقدم تقريرا لقائد القوات:
"يا فندم ، نحن علمنا أنه يعمل بمفرده تماما سيادتك و إن الخطر منه وحده و لذلك تركناه يسقط "
قال خميس هذه الجملة و نفخ صدره و نظر إلى "سعيد" نظرة المنتصر فكأنه يدافع عن بلده ببسالة ، فثقته بمهدي باشا كبيرة ، و طالما أظهرها لزوجته حين يجلس آخر اليوم ليروي لها بعض من إنجازاته ، كان يردد:
" مهدي باشا يعلم العدو من الحبيب "
كان خميس متأكدا من أن هذا الفنان شريف لم يكن أقل من إرهابي حقير مبرمج من جهة أجنبية يريد أن يزعزع أمن مصر و يشوه صورتها وهو لا يسمح بمثل هذه التجاوزات، نظر خميس لصورة مهدي باشا و هو يتسلم جائزة من الرئيس السادات و تمنى لو أنه ساعده أكثر في عمله المخاباراتي – كما كان يردد .
أما سعيد فقد كانت عنده من الشكوك و الوساوس التي تمنعه من تأييد فكرة مهدي و لكنه يسير في حياته بمبدأ لقمة العيش و ينتظر اللحظة الحاسمة التي ينقض فيها على مهدي ليمتص دماء رقبته مثل ثعبان الكوبرا.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ