الفصل العشرون : العمر لا يشترى بالمال


(20)
دخلت وجيدة المنزل و فتحت المكيف لحظة وصولها  الى جدرتها التي دائما ما تمنع الخادمة الفليبينية من استخدامه و هي تعلم أن الفلبين دولة جوها حار وخادمتها معتادة على ذلك فما الداعي لأن تدفع مال لا يستفاد منه .
طلبت من صافيناز ان تستريح ولكن صافيناز وجدت اللوحة التي رسمها شريف فانبهرت و سمعت وجيدة الشهقة العالية و المدح الشديد للوحة :
" ما أجملها ، الله على الألوان ، أنا لم أر في حياتي أبدع من هذا التكوين ، من رسمها ".
قالت وجيدة :
"هذا ما أحضرتك إلى هنا بسببه، هذا ما جعل حالتي النفسية سيئة  ، تلك اللوحة أحضرت الماضي كله أمام عيوني ، انظري إلى الملائكة الصغار ، ألا تري الشبه بينهم و بيني ، ألا يظهر أن الملائكة هي أطفال أنا والدتهم "
دققت صافيناز النظر في اللوحة ثم في وجوه الأطفال ثم قالت :
" أرى أن كل الوجوه تشبهك يا وجيدة ، فكلهم لهم نفس الملامح ، لعله قصدها "
" أنا أرى أنه يلمح أن لي أولاد و ماتوا "
ضحكت صافيناز و قالت :
" ما أبعد هذه الفكرة عن خيالي ، فكيف وصلت لك هذه الفكرة "
أجابت وجيدة :
" لأن لي طفل مات في الحقيقة "
فزعت صافيناز وقالت :
" متى ؟ من زوجك ؟ لم أكن أعرف ، البقية في حياتك ".
أجابت وجيدة بأسى :
"أرجوك لا أريد بقية في حياتي و لا حياة أي أحد ، فهو تعذب كثير ، لقد ولد بقلب ضعيف و ذلك من الهباب الذي أشربه و أدخنه و حاولت المستحيل أن أعالجه و لكنه لم يعش بعد عملية زرع القلب و لا دقيقة ، لم ينبني إلا الأموال الباهظة التي دفعتها ، آلاف الدولارات "
أجابت صافيناز بأسى :
" فداك الفلوس كلها يا وجيدة ، الحمد لله ".
رن الهاتف في حقيبة يدها فأخرجته و أخرجت النظارة لترى من المتحدث و نظرت لصافيناز قائلة :
" والد الطفل يتحدث ، فاليوم الذكرى السنوية لطفلنا "
امتقع وجه صافيناز ، فهي لا تعلم بوجود زوج لوجيدة الآن و ما قالته عن أن هذا والد الطفل يعني أنها على علاقة به ، لم تعتاد صافيناز هذه الأخلاق و لم تتصور أن وجيدة في هذه الدنية من أخلاقها وردت وجيدة على الهاتف :
"  مهدي ، أنا أعرف أنها الذكرى السنوية ، أراك مساءا شيري آتوتالور"
نظرت صافيناز لوجيدة وشعرت بامتعاض شديد ظهر على وجهها وحاولت اخفاءه فهي لا تستحسن تلك الاخلاق وكانت على وشك ان تطلب العودة إلى منزلها إلا ان وجيدة بدأت في الحديث عن ماضيها بعد ان اشعلت سيجارة وسكتت صافيناز لان وجودها في منزل وجيدة كان بدافع الشفقة عليها ورغبة صافيناز في التخفيف عنها :
" هذا زوجي الثالث "مهدي" ، تزوجته في فرنسا  و عشنا سويا مدة قصيرة ، كنت أظنه يكره الأطفال  ولكن الغريب أن مهدي زوجي لم يرد أن أجهض الحمل ، بل كان يقبل بطني كل يوم و يتحدث مع الطفل كثيرا قبل أن يولد"
نفثت سيجارتها في الهواء وارجعت رأسها للخلف وكأنها امام طبيب نفسي تريده ان يريحها وأكملت :
"  للأسف ان طفلنا الجميل لم يطل الاقامة بيننا فقد كان مريضا بالقلب منذ ولادته ولم يكن مع مهدي المال اللازم لعلاجه ، فاضطررت لعلاجه على نفقتي ".
نظرت صافيناز لوجيدة نظرة عطف ازاحت بها الامتعاض السابق وربتت برفق على ظهرها وطلبت صافيناز ان تذهب لتتفقد ابنتها التي كانت تجلس مع الخادمة وتكتب وترسم وتضحك فاطمأنت لهدوءها وابتسامتها الجميلة و عادت الى وجيدة لتجد انها تكمل كلامها وكانها لم تتركها
مسكينة وجيدة فهي وحيدة طوال فترة معرفتها مهما كانت محفوفة بالناس
سمعت صافيناز باقي الكلام واستنتجت انها كانت تحكي مشاكل زوجها مهدي في فرنسا ، ثم انتبهت وهزت رأسها واستطردت
" كان على انقاذه باي شكل وهذا صعب لان شراء قلب ليس سهلا "
شهقت صافيناز عندما سمعت شراء قلب وتساءلت :
"اي قلب تشترين ، قلب حقيقي ، هل زوجك كان مريضا بالقلب "
جفلت وجيدة على تلك الشهقة ونظرت لصافيناز وكانها استيقظت من غفلة وقالت لها:
"بل ابني ، ابني الوحيد الذي لم استطع ان اعوضه ، اردت ان اجد له قلبا يدق بين ضلوعه لعلني استبقيه "
استغفرت صافيناز لان الحديث كان بالنسبة لها خروج على طاعة الله فالله هو محدد الاقدار والأعمار لا تشترى واكملت استماعها لوجيدة التي كانت تتحدث وكأنها تخرج صوتها من اعماق الماضي :
" استطعت بعد عناء شراء قلب من تاجر للأعضاء فرنسي لديه قاعدة للبيانات لكل الحوادث اولا بأول وأيضا معلومات عن المحكوم عليهم بالإعدام و لحسن حظي وجدت قلبا صغيرا لطفل مات في حادثة و من نفس فصيلة دم طفلنا و لكن ... "
ضعفت وجيدة اخيرا و خرجت من المظهر الحاد القاسي للحظات وهي تبكي بعد ان
وضعت رأسها على ظهر كرسي ،  بكت كثيرا  حتى ابتل شعرها .
ربتت صافيناز على السيدة المسنة ووجدا الاثنتان ابنة صافيناز واقفة امامهما وهي في حالة من الذعر فاستعادت صافيناز قوتها التي تستمدها من وجود ابنتها بجوارها  وقالت :
" انا آسفة يا وجيدة ان اطلب هذا الطلب ولكن أنا لا أريد أن أتأخر ، أرجوك أعيديني للمنزل "
مسحت وجيدة دموعها وكأنها لم تكن تبكي وطلبت من الخادمة ان تحضر مفتاح السيارة بنفس الجبروت السابق وكان جبل الثلج تجمد في لحظة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ