الفصل الثالث عشر ، تاريخ لا يعيد نفسه


(13)
ألقت صافيناز زوجة عماد الصحفي المشهور بنزاهته سماعة الهاتف من يدها ، فهي لم تعتاد على هذا التصرف من "وجيدة" ، على الرغم من أن " وجيدة " اعتادت  على الاعتزال بين الوقت و الآخر و كانت ترفض التحدث مع الجميع إلا صافيناز ، كانت الاستثناء الوحيد ، فهي اعتادت أن تشكو لصافيناز كل مشاكلها و قلقها و كانت صافيناز تمثل لها الصدر الحنون الذي لا يمل من سماع المشاكل و يقوم بتحليلها و حلها دون مجهود فهذا هو تخصص صافيناز كما اعتاد عماد أن يقول ، إنه طريقها الذي اختارته بإرادتها ، فبعد شعورها بالوحدة في طفولتها وشبابها كان التعاطف مع الآخرين هو ملاذها لأن تعطي بلا حدود مستخدمة صبرها و خبرتها و حكمتها ، أيضا شعرت صافيناز أن تلك الطريقة هي الوسيلة للتقرب إلى الله .
نظرت صافيناز من الشرفة في حجرة الجلوس بالطابق العلوي لترى شريف و مازن في الحديقة أمام جناح الضيوف و تمنت أن تساعد شريف أيضا في حل مشكلته التي رأت من اهتمام زوجها بها  أنها يجب أن تكون معقدة ، فهي لم تعلم إلى الآن لا إسمه و لا مشكلته و لم تسأل عماد و لم يخبرها هو الآخر.
في الحديقة جلس مازن بين يدي شريف وهو يقترب من وجهه مع التركيز الشديد على عينيه ، فمازن درس لغة الأجساد في علم التسويق و يعلم أن النظر في عين الشخص فيها سيطرة على الحديث معه وهو لا يريد أن يفلت منه زمام الحديث مع شريف لأنه يحبه ، و لأنه لم يرد أن يضعه في مثل تلك المواقف ، فهو أراد له الشهرة بالفعل ، ولكن القتل !! هذا ما لم يخطر أبدا على باله .
قال مازن :
" لكن لماذا يريد مهدي قتلك ، هذا ما أريد أن أفهمه ".
أجاب شريف بعصبية :
" اسأله ، فهو بالفعل قتلني ، لقد ألقاني رجاله من  الدور الخامس ، و لكن أراد الله لي العمر فلم أمت ، والله لا أعلم كيف ، أنا حتى لم أنظر إلى  أعلى لأعرف ما جعلني أسقط  سالما "
قال مازن مستفسرا :
" هل تركك الرجال بعد أن أنقذك الله ؟"
أجاب شريف :
" أظن أنهم  لم يعلموا بنجاتي ، فأنا لم أر أي منهم بعد ذلك"
استراح مازن وقال:
" هذا حسن لأنهم لن يتبعوك إلى هنا "
لم يرتاح شريف إلى الإجابة وقال :
" ما الذي فات مني من القصة يا مازن ، هل هؤلاء الأشخاص بإمكانهم القتل دون المسائلة ، من هم عصابات مافيا ، من هو مهدي هذا ".
قال مازن :
" رجل أعمال "
أجاب شريف بسخرية :
" نعم رجل أعمال عادي جدا يتاجر بالبشر ، أليس كذلك "
لم يضحك مازن من سخرية  شريف لأنه يعلم تماما أن مهدي يمكنه المتاجرة بالبشر و بأي نوع من التجارة و لكنه  قال لشريف :
" لا تبالغ "
قال شريف :
" يا مازن أنا تعرضت إلى القتل مرتان  من قبل أناس أنت تعرفهم ، فما المبالغة في ذلك ".
أجاب مازن مهدئا لشريف :
" أنها تجربة مريرة بلا شك وأنا لا أريدك أن تتعرض لها مرة أخرى و لكن هذه أنماط الحياة والبشر ، أنت عشت في عزلة يا شريف و يجب أن تخرج منها ، الفن ليس انعزالا ، الفن هو أن تتفاعل مع الناس و الأحداث و أن تحاول أن تكون طرفا في هذه الأحداث ".
نظر شريف غاضبا و كشر بين حاجبيه و تعجب لأنه رأى مازن يتحدث وكأنه لا يعرفه جيدا :
" العزلة هذه هي حياتي ، أنا لا أستطيع أن أهدر وقتي مع المجرمين و القتلة والسفاحين يا مازن ، من هي الأنماط التي تريدني أن أتعامل معها ، أنت أكثر شخص تعرفني منذ طفولتنا ، أنت كنت فمي الذي يتحدث و قدمي التي تسير ، كيف تنتقد هذه الحياة فأنت اشتركت فيها . و كنت تساعدني فيها ".
انتقد مازن قائلا :
"أنا لم أوافق عليها و لم اخترها لك ، أنا كنت فمك الذي يتحدث حتى لا تكون أخرسا ، وكنت قدمك التي تسير لكي لا تكون كسيحا  ، أنت تقوقعت تماما بوجودي حولك ، يجب أن تبدأ في الحديث و الحركة وحدك ".
غضب شريف أكثر وقال :
" أنا لا أريدك أن تتحدث بلساني بعد الآن ، إن كنت عبئا عليك في الماضي فلن أكون كذلك بعد الآن".
قال مازن :
" لا تلوي الأمور فأنا لم أشعر بأي عبء أنا أخاف عليك من العالم الخارجي تأكد من أن أحدا لن يتركك  ، هل تظن أن عزلتك ستحميك من الآخرين ، ألف لا ، و الله لن يتركوك ، سواء الآن أو في المستقبل " سكت قليلا ليتمالك نفسه ثم قال " شريف يا حبيبي ، العالم كله يأكل بعضه ، و أنت تريد الانعزال ، لا أوافق ، كفاك انعزالا ".
قال شريف :
" إذا لم يكن غرضك شهرتي ، بل غرضك تربيتي من جديد ، كنت تريد إخراجي من العزلة بأن تعرضني إلى القتل على يد من لا يرحم ، أشكرك ".
سار قليلا فأمسك به مازن :
" لا و الله لم أقصد ذلك أبدا ، إنك عمري كله ، أنا قضيت طفولتي كلها بين أهلك ، أنت صديقي الوحيد الذي أثق به ، شريف لا تقل هذا ".
احتضن مازن شريف بقوة و تركه وهو يقول :
" أنا لن أدع أي شخص يؤذيك و لا على جثتي أنت تعلم ذلك ، هل تتذكر كم مرة أخذت أنا الضرب بدلا منك يا ناكر الجميل ، أليست هذه السنة هي التي فقدتها لكي أفاديك من الطوب الذي ألقي عليك ، شريف ، لن أتركك بين الوحوش ، ثق من ذلك".
ضحك شريف قليلا حين ذكره مازن بالضرب فهو لم يكن من الطلبة المحبوبة في مدرسته ، تعرض كثيرا إلى المناوشات و العنف داخل المدرسة و لكنه أيضا كان يتعرض إلى الضرب خارج المدرسة من بعض تلامذة المدارس الأخرى وخاصة المدارس التي تدرس باللغة العربية والتي يعتبر أولادها أن تلامذة مدارس اللغة الأجنبية هم الأطفال المدللون الذين يصرف آباءهم عليهم الأموال الحرام حسب ما سمعوا من آبائهم  ،  يقوم هؤلاء التلامذة بإظهار تفوقهم على الآخرين عن طريق الضرب و العنف الذي يقابله بعض العنف المضاد و كان شريف مستهدف لبطئ حركته و سلبيته المتناهية و لكن كان مازن بمثابة حارسه الخاص ، فهو لم يتركه  أبدا في أي مواجهة ، بل كان دائما بجواره .
تذكر شريف يوم أصابته الطوبة في وجهه و  كسرت له سنة من أسنانه الأمامية وقام الطبيب بعمل خياطه له في وجهه . عاد شريف معه من عند طبيب الأسنان و ظل داخل حجرة مازن محبوسا لساعات ، اكتشف أهل مازن أنه  رسم له لوحة على الحائط .
أراد والد مازن أن ينتقل إلى شقة أخرى و لكن رفض مازن بشدة لعلمه أنه لا يمكنه خلع الحائط و بالتالي فعليه ترك اللوحة الجدارية و لذلك فقد قام والد مازن بتصويرها مع مصور محترف لكي يحتفظ بنسخة منها في برواز ، وضعه مازن في حجرته الجديدة ، وكلما طلب من شريف رسم لوحة جديدة على الجدار ، يصر على أن يقوم بخلع ضرس من ضروسه أولا .
نظر مازن في وجه شريف و علم أن غضبه قد قل و بالتالي يمكنه التحدث معه ببعض العقلانية فقال :
" شريف ، أنا معك في ما تريد أن تفعل ولن أتركك "
أمسك شريف بذراع مازن المليئة بالعضلات وثم احتضنه و قال تعال معي أريك مرسمي الجديد ".
ابتسمت صافيناز من الشرفة في حجرتها وقالت :
" الحمد لله " ثم صاحت  بصوت عال :
" أم محمد ، حضري الغذاء "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ