الفصل السابع ، السائق النبيل


(7)
قاربت الساعة السادسة مساءا ، ركب شريف السيارة بجوار مجدي السائق الماهر  والمحامي العنيد ، تحركت السيارة و في رأس شريف العديد من التساؤلات والأحداث ، بل للحظة سأل نفسه عن العلاقة السريعة التي تكونت بينه وبين مجدي رغم عدم معرفته الحقيقية به و لا بخلفياته ،  لكنه شعر معه بالأمان و شعر بالصدق في مشاعره و كلماته  و لذلك ترك لله الأمور و ذهب معه و لكنه استدرك قائلا :
" أكمل يوم عملك و أنا معك ، لا داعي إلى العجلة و الذهاب إلى منزلك من الآن "
قال له مجدي بأدب :
"أشكرك ، فأنا فعلا مضطر لأن أشتري شيئا لأستاذ عماد ، لو سمحت لي ".
ابتسم شريف إلى التناقض الموجود بالمجتمع فها هو مجدي مهذب ، يراعي مشاعر الجميع ويستأذن في كل خطوة ، أما الآخرون فيحاولون قتله بلا مشاعر بالمرة!.
ذهب شريف مع مجدي إلى السوبر ماركت و ظل يبحث مع مجدي عن نوع معين من القهوة التي يفضلها عماد و لم يتعجب شريف ولم يتأفف فهو يعلم أنه كل منا له ذوقه الخاص ولولا قصر الموارد التي يعاني منها لتدلل مثله.
عاد الاثنان إلى منزل عماد و وقف مجدي أمام الفيلا الجميلة بالدقي و استأذن للمرة الثانية لكي يدخل القهوة لعماد.
دلف مجدي إلى الفيلا و دق الجرس ليفتح له عماد مبتسما وهو يقول له :
"من هو المظلوم هذه المرة ، فأنا أنتظر أحداثك بفارغ الصبر ، أنا في غاية الحاجة للحوادث ، فيوم السبت قد اقترب".
اندهش شريف من طريقة حديث عماد مع مجدي لأنه مهما كان سائق سيارته و ليس صديقه ، ولكن من الواضح ان عماد يتميز بالبساطة الشديدة و هي من شيم العظماء ، خاصة و أن الفيلا التي يسكن فيها تدل على الأصل الجيد من حيث الطراز المعماري القديم والحجم الكبير و الحديقة الشاسعة و الموقع القريب من وسط البلد .
كان عماد رجل متفوق في كل ما يفعله فهو كان من أوائل الثانوية العامة و من أوائل دفعته في كلية الإعلام ومن الشخصيات القليلة التي لديها العديد من المهارات التي اكتسبها في سنوات الغربة مع أبيه في بلد عربي هرب إليه والده من الاضطهاد السياسي الذي تعرض له حين كانت الدولة تكره الإخوان المسلمين و تضيق عليهم سبل العيش ، ذلك على الرغم من عدم انتماء والده  إلى أي تيار سياسي و لا ديني ، بل جل ما فعل هو أن ساعد زوجة أحد أعمدة الإخوان حين قبض على زوجها و زج به إلى معتقل ، تاركا لها بلا عائل.
كان والد عماد صاحب مبادئ ، لا يخاف من جبروت السلطة و يتقى الله في كل خطوة من خطوات حياته ، لذلك فهو لم يخف من مساعدة زوجة و أم لخمسة أطفال ، مهما كانت المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها ، كان يأخذ زوجته و يعطيها المال و يطلب منها زيارة تلك السيدة و إعطاءه لها و يطلب منها أن تثبتها و تشد أزرها و لم يكن يعلم أن تلك الزيارة و غيرها تحت المراقبة .
أخذ عماد ، صاحب الفيلا  من والده العزم و الإحسان و مناصرة الضعيف و تقوى الله و لذلك فكانت معاملته لمجدي معاملة حسنة ، آدمية .
نظر شريف من السيارة الواقفة أمام الفيلا وهو يرى مجدي يتحدث مع عماد ببساطة وتلقائية ، و تفحص المكان ليجد أن عماد يتميز بحس فني واضح في اختياره لتنسيق الحديقة الأمامية ووضع بعض القطع الفنية المتميزة فيها.
كانت هذه الفيلا  لوالد عماد نقيب المحامين في منتصف القرن الماضي و من أكثر المحامين تدينا و هذا أعطاه الشجاعة في مواقفه مع المظلومين ، حيث أنه كان يستشهد بالآية " إن ينصركم الله فلا غالب لكم " مما جعله لا يغير من علاقته بأي شخص مهما كان اتجاهه السياسي ولكن لم تكن رؤية حكيمة في زمن من الأزمان السياسية.
عاش عماد فخورا بمواقف والده وظل مثله الأعلى بعد وفاته لأن قلب والده الطاهر الصغير لم يحتمل آلام غدر الأصدقاء و مكائد الأعداء و توفى قبل أن يصل إلى الستين من عمره بعد أن حاول الأطباء معالجة ذلك القلب المثالي والمثقل بهموم من حوله من أشخاص و قضايا و أحوال بلد فلم يستطيعون و انتهى بجلطة أودت بحياته في ليلة العيد ، كان في هذا عزاء لعماد و لكن العزاء الأكبر كان في الجنازة المهيبة التي سدت الطريق لخمس دقائق .
نظر عماد تجاه السيارة الواقفة أمام منزله و قال لسائقة :
"هل هناك من ينتظرك بالسيارة ".
أجاب مجدي :
"هذا هو الحالة المظلومة ولكن إلى الآن لم أعلم القصة بالكامل ، هل تريد أن نتعرف عليها معا ".
نظر عماد داخل المنزل ليرى زوجته تشاهد إحدى المسلسلات و طفلته تلعب أمامها فاستأذن من مجدي و ذهب إليها :
"أنا مضطر أزوغ منك لفترة ممكن "
نظرت " صافيناز" زوجة عماد إليه ونظرة الرجاء في عينيه وقالت له :
"اذهب يا حبيبي ، فأنا أشاهد مسلسل أحبه و لكن لا تتأخر عن الواحدة مساءا و إلا ستجدني في الفراش آكل الأرز مع الملائكة "
ضحك عماد و شكرها جدا و أعطاها قبلة على جبينها بإعزاز ، فزوجته الآن هي كل حياته ، وهي مصدر بهجته و ضوء عيونه كما كان يصفها في مقالاته.
خرج عماد من الباب و قال لمجدي :
"هيا إلى الكفاح "
داخل المنزل الكبير جلست صافيناز ، الزوجة الحنون ، تشاهد المسلسل و هي تدعوا لعماد بالتوفيق و البعد عن المشاكل فهي على الرغم من انتمائها إلى الطبقة العليا التي ظلت سنوات و مازالت تتشبه بالأجانب و تبعد عن الشكل التقليدي للأم المصرية التي تجلس ببساطة وسط مملكتها ، و تعتبر تربيتها لأولادها أعظم إنجازاتها ، تلك الطبقة العليا التي تنتمي إليها والدتها التي مازالت إلى الآن تقضي أجازاتها في رحلات غريبة لتنزانيا و البرازيل على الرغم من كبر سنها و انحناء ظهرها وثقل قدميها، إلا أن صافيناز أخذت و استساغت الشكل التقليدي للأم المصرية طيبة القلب ، صادقة الإحساس و الارتباط بالأولاد و الزوج ، حتى أنها كانت تتعمد مشاهدة المسلسلات مع ابنتها الصغيرة التي ظلت سنوات تنتظر حملها ، وبل و تحاول بكل الطرق الطبية الحديثة ، حتى أذن الله لها بالحمل.
ظلت صافيناز مع طفلتها منذ يوم ولادتها ، لا تتركها في اليوم الواحد إلا دقائق معدودة ، ثم تعود  وتلعب معها و تشاهد التلفزيون معها ، بل و تناقشها في كل ما ترى و تعلمها من خلال تحليل مواقف الممثلين و الممثلات و كأنها في حصة تربية و أخلاق ، حتى نضجت أفكار الفتاة مبكرا.
قالت صافيناز بنبرة كلها حب وهي متأكدة من أن عماد لا يستطيع أن يسمعها :
"تصبح على خير يا حبيبي"
نظرت ابنتها و قالت ضاحكة تعيد مشهدا يتكرر دائما :
" ده مش سامعك يا مامي برضه "
وتكرر الإجابة وهي تداعبها في بطنها :
"من قال لك هذا "
جلست صافيناز تقرض في أظافرها وهي تشاهد مسلسل من المسلسلات التي تقوم بحل قضايا القتل عن طريق بعض المعطيات و تذكرت قصص أجاثا كريستي التي ملأت مكتبة والدها .
أخذت صافيناز ابنتها بين أحضانها و قالت :
"يا رب احفظها لي ، أنا لا أملك سوى الدعاء "
اعتادت ابنتها على كل هذا الحنان و دفنت رأسها في صدر والدتها وهي تقول :
" لا تخافي يا مامي ، أنا مش ممكن أبعد عنك "
نظرت صافيناز تجاه المكتبة القريبة و تبينت مفاتيح سيارتها و قالت :
"اعف عني يا رب "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ