الفصل الثامن عشر ، هل ينكشف المستور


(18)
جلست وجيدة وهي تشرب سيجارة تلو السيجارة و صافيناز تنتظر أن تفتح لها قلبها ، خاصة وانها لا تريد ان تبتعد عن منزلها كثيرا ولا تريد ان تبقى مع وجيدة لانها تشعر معها دائما بالتوتر والقلق ولولا انها تراعي الله فيها ما نزلت معها.
أخذت وجيدة العصا التي تتكئ عليها ووضعتها بعصبية امامها على الطاولة ثم نظرت لصافيناز و هي تقول :
" أخاف من المستقبل يا صافي ، أنا لدي ماض غير مشرف ، أنا لم أراع لا تقاليد و لا دين ، أخاف أن ينكشف أمري و يحتقرني الناس "
نظرت لها صافيناز نظرة حانية لانها ولأول مرة تراها وهي ضعيفة فهذا ليس من شيمها
قالت صافيناز :
" أنت تعملين الخير الآن و لا اعتقد أن الماضي الآن يهم أحد ، المهم أن معظم أموالك تذهب لمن يحتاجها ، أنت يا وجيدة هانم من أكثر السيدات بعدا عن البروباجندا و الإعلام ، أنا أرى أنك تخلصين لمشروعاتك الخيرية و تعطيها الكثير ، و بالأخص مشروع الأطفال العميان فأنت تبهجي حياتهم و تراعيهم جيدا ".
تنهدت وجيدة و أخذت نفسا عميقا من السيجارة و نظرت لصافيناز وهي تبتسم :
" معرفتك يا صافي فيها الكثير من الفوائد ، فأنت دائما تري الحسن من أي إنسان ، ليتني كنت مثلك ، فأنا لا أشعر بالتعاطف مع أحد ، أنا  أرى البغض و الكره ، بل  مشروعاتي الخيرية ما هي إلا تكفير عن كثير مما فعلته "
ابتسمت صافيناز و اقتربت من كرسي وجيدة بجوار ضفاف النيل و احتضنتها بشدة الحضن التي ارادته من والدتها ثم  قالت لها بصوت حنون :
" و ما الضرر في أن تكفِّري عن ذنوبك ، كلنا عصينا ، ولكن ، أليس ذلك أفضل من الاستمرار فيما كنت فيه ".
فتحت وجيدة عينيها الممتلئتان بالدموع وانقطعت الدموع فجأة وانتفضت للخلف ونظرت لصافيناز باندهاش و هي تقول :
" هل تعرفين ما كنت فيه ".
استدركت صافيناز سريعا وقالت بتأكيد وهي تعود لاحتضان السيدة :
" أنا لا أعلم و لا أهتم ، أنا ما أعرفه عنك الآن هو أنك سيدة تقوم بعمل الخير و لا تتباهى به كثيرا بل تفعله في صمت "
قالت وجيدة و كأنها تعطي صافيناز خبرة السنوات :
" التباهي و الغرور ، آفة ، مرض ، شفيت منه و الحمد لله ، لقد دمرني حبي لذاتي و رغبتي في الشهرة ، لم أحظ بالشهرة ولكن حظيت بالألم و الآلام ".
نادت صافيناز على الجرسون و طلبت منه عصير ليمون طازج و قالت لوجيدة :
" لا تتذكري الماضي إذا كان سيعيق مستقبلك ، قومي بالعمل الجاد و اسعدي ".
نظرت صافيناز لابنتها  "بهيرة" وهي تتابع مركبا في النيل و أرسلت لها قبلة في الهواء ثم نظرت لوجيدة لتجد دموعا في عينيها الزرقاء الصافية تسقط على خدها مسحتها صافيناز و قامت لتحتضنها مرة اخرى :
"كفى بكاء ،  لا تبكي ، أنا معك و لن أتركك ".
قالت وجيدة والعبرات تخنقها :
" من السهل أن تطلبي مني أن أترك الماضي فأنت ليس لك ماض ، أنت نقية مثل مياه النيل ، أنت معطاءة ، أنت تعطي الأمل لكل من حولك ".
قالت صافيناز وهي منفعلة حتى أن العبرات كادت تندفع من مقلتيها :
" لا تستسلمي ، من قال لك أني بلا ماض ، أنا لدي عُقد تملأ النيل ، أنا لم أشعر بوجودي ، أنا تربيت في بيت من ثلج ، أبي عاش حياته يكافح ليسعد أمي و أنا في الظل ، لا أتذكر يوما قضيته معهما ، فأنا مع المربية أو الجيران ، أمي لم تحتضني يوما في حياتها ، أنا لا أجدها حين احتاجها ، أنا أردت و أنا صغيرة أن ..." نظرت صافيناز لتجد ابنتها تنظر ناحيتها فقطعت حديثها فجأة حتى لا تقلق ابنتها بماضيها ولكن الفتاة لم تتركها بل جرت إلى أحضان والدتها و هي تقول :
" الحزن ممنوع  ، أليس اليوم هو يوم الضحك ".
ضحكت صافيناز لأن تلك الجملة هي ما كانت تردده دائما لابنتها حين تبكي و لكن وجيدة لم تصدق أن صافيناز لها ماض ، حتى لو أقسمت على ذلك فالكلمة بالتأكيد عند صافيناز لها معنى آخر و لذلك أرادت وجيدة أن تعلم صافيناز معنى الكلمة فتساءلت :
" هل تزوجت دون رغبة أهلك ، هل مارست الرذيلة ، ما هو الماضي المشين الذي يمكنك أن تتحدثي عنه  ، عندي حدس أنك ذهبت يوما إلى السينما من 9 مساءا دون علم والدتك ، أليست  تلك الأشياء مشينة لمن تربى على قيمك و أخلاقك يا صافي ، لا تدعيني أخبرك عن الماضي السيء حتى لا تفقدي براءتك "
دفعت صافيناز ابنتها بعيدا حتى لا تكمل سماع حديثيهما و هذا أضحك وجيدة حتى ظهرت أسنانها اللامعة و المنسقة بفعل أفضل أطباء الأسنان في العالم وهزت رأسها بسخرية و أكملت نقدها بنفس الصوت المختنق من العبرات قائلة :
" ألم أقل لك أن ماضيك مضحك ".
أصرت صافيناز على أن لها ماض و لكن سخرية وجيدة منعتها من أن تكمل الحديث عن نفسها بل بدأت مرة أخرى تكمل مواساة وجيدة ومحاولة دفعها إلى  الأمام وشحن حالتها المعنوية بجرعة من الثقة و حب الذات و في النهاية أخبرتها بأنه طالما سترها الله عن اعين الناس فيجب أن تثق أن الله سيكمل نعمته بسترها إلى الأبد ، و أن أعمالها الخيرية ستكون ساترا لها أمام الخلق
نظرت وجيدة لماء النيل الجار ثم بدأت تغير من مجرى الحديث وقالت لصافيناز:
احكي لي عن صاحب السيارة الواقفة امام منزلك
ضحكت صافيناز قائلة :
انك لا تتغيري يا وجيدة هانم ، انا لا اعرفه وانت لا تحيدي عما تريدين ، اخبريني انت ما السبب لرغبتك في المعرفة
اجابت وجيدة وهي تشعل سيجارة اخرى :
 انها لشاب نشيط اسمه مازن ، اعرف والدته منذ زمن و هو يقوم بعقد صفقات كبيرة جدا و على مستوى عالمي، ولقد شاركها في عدة صفقات و جنى منها أموال كثيرة وهي تبحث عنه منذ فترة.
تيقنت صافيناز أن لمازن يد في حالة وجيدة النفسية لكثرة سؤالها و إلحاحها في معرفة العلاقة بين أسرتها وبينه .
تعجبت صافيناز لأن وجيدة مقاتلة شرسة ، أحيانا بلا قلب،  ثروتها ظلت درعها الواقي ، لم ترها يوما ضعيفة ولا مهزوزة ولكنها ترى أمامها سيدة مضطربة ، متسرعة ، تخاف على سمعتها وحين أصرت صافيناز أن تعرف سبب كل تلك الاضطرابات أجابت وجيدة :
 سأخبرك بكل شيء ، تعالي معي ".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ