ضحايا وابطال ، الفصل الثالث


سار شريف على غير هدى  في حالة جديدة عليه ، لم يكن يتخيل أنه سيتعرض إلى القتل أو حتى التهديد بالقتل و لكن تجربة اليوم لن تجعله يستبعد أن يكون هناك من يترصده .
رفض شريف أن يسيطر الشك على حياته و يحوله إلى مريض نفسي فيكفيه شعوره بالذنب طوال حياته .
كان يطمئن نفسه بأن ما حدث له من مهدي هو حالة خاصة لشخص مريض بالسلطة و جنون الارتياب وهو لن يدع هذا الحادث العرضي يؤثر في حياته ولكن الرجل الضخم الذي كان يسأل عليه مع مازن قد  يحولها إلى خوف دائم .
خلال حواره مع نفسه شعر شريف برجلين يقتربان منه ، حتى أصبحا بجواره ثم أحكما قبضتيهما على ذراعيه ، ثم دفعاه دفعا إلى  سيارة قريبة  تقف بجوار الرصيف.
نظر لأحدهما شريف فعرفه ، فهو الرجل الغليظ الصوت الذي كان يتحدث مع مازن ، دخل شريف السيارة وهو يلتفت نحو أحدهما  محاولا أن يستفهم منه سبب هذا الاعتراض ، و ليرى أيضا إذا ما كان هناك ما يدل على علاقتهما بالرجلين اللذين ألقيا به من شرفة الشقة المفروشة و لكنه لم يجد ما يدل على ذلك
سمع الصوت الأجش للشخص السمين يقول :
" لمحتك و أنت تهرب ، ماذا الذي تعرفه عن حنفي بك !"
سأله الرجل الأول و الذي يشبه الممرض المنوط بالمجاذيب فلا ينقصه إلا القميص الأبيض في يده و من الواضح أن المنطق لا يصلح مع هذه النوعية من البشر.
أجاب شريف دون أن يفقد هدوءه:
"كل خير ، من أحسن الناس"
أعاد الرجل الأول سؤاله :
"ماذا تعرف عن حنفي بك ، لا تتعبنا وقل الحقيقة ، لمصلحتك"
اندهش شريف أن الرجل لا يصدقه بل و يتعامل معه بخشونة متعمدة ،
يقول شريف متأففا :
" يا عم فيه إيه ، ماذا فعلت لكي يكون هذا جزائي  ".
لم يعر الرجل الضخم أي انتباه لقوله وقال لزميله :
" إذا لم يقل شيئا له معنى فألقه في الشارع ".
وسعت عينا شريف و قال :
" ماذا تريدونني أن أقول ، والله العظيم لا أعلم عن حنفي بك إلا كل خير والله ، ماذا أفعل لتصدقوني ، هل اللوحة التي رسمتها له لم تعجبه ، أم ماذا ؟ "
نظر الرجل الضخم لزميله وقال له :
" لنلقه "
فأمسك الرجلان بشريف و بدآ في دفعه إلى الخارج و حاول شريف باستماتة أن يظل داخل السيارة فتشبث بكل شيء و لكنه وجد جسده النحيل في طريقة إلى الخارج ، حاول أن يمسك بالنافذة الزجاجية ويضع ساقاه حول الباب و لكن قوة الرجلان الكبيرة كانت كافية لإلقائه ، و لستر من الله فقد انحرفت السيارة التي كانت خلف سيارتهما و توقفت على بعد بضع السنتيمترات من جسد شريف النحيل و خرج سائق السيارة الشهم ليتأكد من سلامته و قال له :
" أنا حفظت مواصفات السيارة ، فهي بلا أرقام و يمكنني أن أشهد أمام الشرطة لو أردت أن تقيم دعوى أو تفتح محضرا ، أنا مجدي  شاهين المحامي  "
أسرعت السيارة التي ألقت بشريف ودخلت في أول منعطف و اختفت عن الأنظار في ثوان قليلة على الرغم من امتلاء الشارع.
ظل شريف يردد :
" أنا مش مصدق و الله ما مصدق ، ما الذي حدث للناس اليوم "
نظر لسائق السيارة وهو يمنع نفسه من البكاء قائلا :
" هذه المرة الثانية التي أتعرض فيها للقتل اليوم ، غير معقول "
تحمس السائق وقال له :
"لا تترك حقك ، الساكت عن الحق شيطان أخرس و أنا لست شيطانا و بالـتأكيد لست أخرسا ، هيا بنا ، تعال معي لن أتركك حتى تأخذ حقك من هؤلاء المجرمين ".
قام شريف وهو في حالة من الذهول ، فهو شاب طموح قرر أن يحقق طموحه بفكرة بسيطة لم يتخيل أن هذه الفكرة البسيطة والتي تقوم على الرسم و الفن الحقيقي ، يمكن أن تكون نتيجتها أن يتعرض إلى القتل عمدا ولأكثر من مرة في يوم واحد .
ساعد شريف على النهوض سائق السيارة الملاكي و المحامي ، خريج كلية الحقوق  بجامعة القاهرة ،  الذي لم يحصل على فرصة عمل مناسبة بعد ،  و لذلك قرر أن يستكمل دراسته بجانب عمله كسائق خاص لأسرة محترمة ، قدرت كفاحه و احترمته دون أن تعلم أنه من سلالة أعرف العائلات المصرية في زمن ما قبل الثورة .
فقد جد مجدي المحامي اتزانه و عقله حين استولت الثورة على أملاكه و إمعانا في التنكيل به أصبح قصره الوحيد الذي يسكن فيه و المتبقي من كل ثروته الطائلة  ، أدخل هذا القصر  في التنظيم العمراني لمدينة القاهرة بحيث يمر شارع خلاله ، و للأسف الشديد فقد سلب هذا الشارع نصف القصر بحيث أصبحت حجرة الطعام الرئيسية هي المدخل .
قام والد مجدي و الولد الوحيد لعدة أخوات للجد الأصيل بوضع بعض قطع الطوب الكبير أمام باب حجرة الطعام لعلوها عن مستوى الرصيف، كما  قام بوضع قفل على الباب ليعطي لأسرته بعض الأمان.
جمع "مجدي" ابن الأصول كل ما سقط من شريف من محفظة و نظارة وساعده على النهوض بصعوبة حيث ازدحم المارة من حوله ليتأكدوا من سلامته و كان منهم من يستدعي حول الله و قوته و منهم من يسخر من مصر التي أصبحت بها رعاة البقر مثل الأفلام.
ساعد مجدي شريف في الدخول إلى السيارة ليصله إلى أقرب نقطة شرطة ، أجلسه بجواره وظل يتحدث معه عن الإيجابية و كيف أن الإنسان يجب ألا يترك حقه مهما كانت الأسباب و أن من يدافع عن نفسه و يمت فهو شهيد و أن سبب تخلفنا هو عدم معرفتنا بحقوقنا و واجباتنا ، وأن الجهل و الخوف سيدفعاننا إلى الخلف .
كان مجدي شابا متزنا فهو الأخ الأوسط و الأكثر رزانة و تعقلا من الأخوة الآخرين، فلم ينقم على البلد و الحكومة ولم ينحرف مع بعض الشباب مثل أخيه الأكبر و لم ينطو و ينكسر ويترك الجمل بما حمل و يهاجر للخارج مثل أخيه الأصغر و لم يسب و يلعن الزمن و الحياة مثل والده ، بل تعلم و عمل و استغل كل الفرص الحلال لكسب المال ، لأنه كان يريد أن يعيد لأهله عيشتهم الهنيئة مرة أخرى  بالعمل الجاد و إثبات الذات وليس عن طريق الإرث و السلالة و النسب.
وصل مجدي لنقطة شرطة ووجد حولها من الزحام ما جعل شريف يقول له :
" دعنا من الشرطة ، منذ متى و الشرطة تحل المشاكل ، أن لأبي عدد محاضر أكثر من شعر الرأس ، أنا متعب و لا أريد أن أزيد همي بالجلوس لملئ صفحات لا جدوى منها.
سكت مجدي للحظات ثم انتبه وقال لشريف  :
" و لكن ما الذي دفع الناس لمحاولة قتلك ؟."
انفجر شريف :
" دعنا نذهب من هنا "
ثم أكمل :
"والله العظيم لا أعلم ، من غير المعقول أن يجن الناس كلهم و أظل أنا العاقل الوحيد!".
راح مجدي يمارس مهنته التي طالما تمنى أن يمارسها في مكتب للمحاماة خاص به ،  يدافع فيه عن كل مظلوم .
تأكد مجدي بينه وبين نفسه أن شريف يعاني من ظلم بين وربما ساقه الله له لكي يرفع هذا الظلم عنه . توقفت السيارة عند أول إشارة مرور فترك المقود وقال له :
" أنا أريد مساعدتك ، أنا خريج حقوق ويمكنني أن أقف بجانبك لدرء الظلم عنك و لكن عليم أن تصارحني بكل شيء"
قال شريف كأنه لم يسمع حرفا مما قاله مجدي ، قالها وهو على وشك الانهيار :
" هذا خبل و الله العظيم لا أصدق ".
سمع مجدي رنات الهاتف المحمول في جيبه فالتقطه و رد بأدب شديد :
" نعم  يا أستاذ عماد ، سأحضر لك ما تريده و لكن هل تسمح لي بمشوار خاص لمدة نصف ساعة بعد إذنك "
انتهت المكالمة و أخذ مجدي الفنان شريف و ذهب إلى مقهى صغير و جلس وهو مهتم بأن يعلم ما هي قصة شريف .
شرب شريف العناب و الذي هدأه قليلا ثم نظر إلى مجدي وقال له :
"أنا أرسم قبل أن أكتب ، لدي مرسم أقيم فيه وحدي منذ وفاة والدتي ، فكرت يوما في أن أقوم برسم لوحات لبعض مشاهير البلد و اهديها لهم لكي افتخر بأن لوحاتي مع الصفوة ، اخترت بعض المواضيع التي تناسب كل شخصية ، حسب رؤيتي لها ، و ما حدث يعجب له الجميع ، فمنذ الصباح و أنا أتعرض لرجال مثل العصابات ، يحاولون قتلي و كل مرة يسألونني عمن وراء هذه اللوحات و من شريكي و كيف عرفته ،  وأسئلة كلها عجيبة "
سأل مجدي :
" ومن هم الرجال الذين حاولوا إلقائك في الطريق"
قال شريف :
" رجال حنفي إبراهيم عيسوي "
ظهر على مجدي الاندهاش و قال :
" صاحب المستشفى الهولندي الألماني وصاحب شركة أدوية سيدوكير "
قال شريف :
" نعم فقد قمت برسم لوحة له وهو يمسك في يده قلب مريض يخرج منه نور ولكن الظاهر أن  هذه هي اللوحة التي جعلته يرسل من يلقي بي من السيارة ! ، جنون و الله ".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ