الفصل السادس ، اولاد الاصول واولاد الشعب


 (6)
جلس كامل الشافعي في منزله الصيفي بمارينا أمام حمام السباحة الخاص به وهو يسمع أصوات الشباب بجوار الفيلا و احتكاك إطارات نتيجة مكابح السيارات ، لم يكن عقله متيقظ  بالمرة لأنه مازال يفكر في اللوحة التي أرسلها له الفنان المغمور "شريف فتحي خشبة" .
لم يصدق مدى احتراف هذا الفنان و كيف أظهر على وجهه كل هذه القسوة و هو ممسك بالسلاح في يده و خلفه النيران ، كأنه يسمع صراخ الجرحى و أنينهم ، إنه فنان أصيل و لكن ما الذي جعله يربط بينه و بين السلاح وهو عضو مجلس الشعب المدني الذي لم ينضم في أي يوم من الأيام إلى الجناح الحربي و لا حتى الجيش ، فهو ولد وحيد و كل أخواته البنات أصغر منه سنا.
هل كان يعلم هذا الفنان بماضيه ، هل أخبره أحد ؟  لقد كانت صفقات السلاح التي قام بها سرية للغاية ، و لم تكن تلك الصفقات لطرف من أطراف حرب ،  بل كانت للدفاع عن النفس و الأخذ بالثأر بين القبائل في الصعيد ، بل إنه دائما كان يأخذ تعهدا من كل الأطراف ألا تدخل الأسلحة في حرب مع إسرائيل و لا غيرها .
وضع عضو مجلس الشعب اللوحة أمامه دون أن  يجرؤ على النظر إليها كثيرا فقد كان يتخيل المعارك التي اشترك فيها السلاح الذي قام ببيعه من الباطن بعد تسريبه من أسلحة الجيش النظامي أو البوليس على أنه استخدم و استهلك في التدريبات.
لقد وضع حاجزا على عقله و لم يرد أن يفلسف الأمور أو أن يتخيل وجود السلاح الذي سهل بيعه مع من يسيء استخدامه إلى أن نظر إلى تلك اللوحة.
أفاق كامل من غيبوبته على رنين هاتف و صوت  يقول له :
" لم نجد شيئا سيادتك في العوامة ، فقد قلبناها كلها عاليها سافلها ،  هل تحب سيادتك أن نبحث في منزل العائلة "
قال كامل بحزم :
"لا ، كفى ، هذا يكفيه لليوم "
تحدث بثقة على الرغم من أن ضربات قلبه كانت تتسارع بعنف ، هذا القلب الرقيق الذي كان صغيرا في قرية صغيرة شبه مملوكة من عائلة عريقة استحوذت على رئاسة القرية من العمدة وشيخ البلد ، و أصبحت معظم أراضي القرية ملك لتلك العائلة ، و للأسف لم تكن هي عائلته ، بل كان والده عاملا أجيرا لديها ، ولم يكن له حقوق كثيرة في الماضي ، فالعائلة العريقة استساغت القوة و أصبحت تعامل كل أهل القرية  - ما عدا أفرادها – بجبروت غريب غير مبرر.
وتدفقت إلى ذهنه الذكريات فهو لا زال يذكر حين خلع العمدة عن والده ملابسه الصوف لأنه تجرأ ولبس ملابس صوفية تحميه من الشتاء ، لأن من تقاليد القرية ألا يلبس الصوف إلا الأعيان و طبعا أفراد العائلة.
ابتسم كامل قليلا حين تذكر أن له عم لم يعلن عن اسمه إلا بعد وفاة الجد الأكبر للعائلة العريقة لأنه سمي بنفس اسمه و لم يكن ليسمح له الإعلان عن ذلك لأنها إهانة للأسرة أن يسمى العامة بأسماء مطابقة لهم ، و كأنهم سلاطين و لا يعلم كامل إلى الآن لماذا رضي العامة بتلك المعاملة وما الذي كان يرهبهم من تلك العائلة ،  على الرغم من أنها لم تكن عائلة إقطاعية ، بل كانت تملك معظم الأراض بالقرية .
أراد كامل أن يشرف والده بأن يكون علما من أعلام القرية ، فقرر أن يكون ثروة ليستطيع أن  يتقدم طالبا يد فتاة أحلامه التي تنتمي إلى  تلك الأسرة العريقة فتحتم عليه سنوات من الغربة لكي يجمع ثروة من التجارة الشريفة و المال الحلال .
أنه لم ير يوما أسعد لأهله من يوم استعدادهم إلى التقدم للأسرة العريقة طالبا فتاته منهم  بعد أن تغيرت بعض الأحوال و أصبح كامل يمتلك مالا أكثر من والد فتاته .
ذهبت أسرة كامل و قابلت والد العروس ، فقدم شروطا مجحفة ، ومع ذلك رضيت بها أسرة كامل ،  بل و  زادت على طلبهم الكثير من الهدايا من ذهب و نقود بحيث أن يوم تقديم الشبكة قامت أسرة الفتاة و اسرته بفرض حراسة على منزل العروس و أحضرت الغفر و البنادق لحماية الشبكة و الهدايا .
شعر كامل في ذلك اليوم بالنصر ، ولكن ما أنقص من بهجته هو فرض عائلة له بأن  يقوم ببناء مسكنه خارج حدود القرية لئلا يضع منزله بجوار منازل العائلة فينتمي لهم و كأنه واحدا منهم.
بدأ كامل حياته بالحلال ،  لا يعلم إلى الآن ما الذي قلب حياته إلى النقيض ، فلقد أصبح مريضا بجنون العظمة ، يستفيد من سلطته ، يأخذ الرشوة بقلب ميت ، لعل شعوره بالنقص طوال صباه وشبابه و شعوره بالقهر أمام زوجته لرفض العائلة أن يبني لها بيتا داخل قريتها  ، أو لعله الشيطان الذي استفاد بكل نقاط ضعفه فاستقطبه في المهام الصعبة ، والعبرة دائما بالنهايات.
سمع كامل صوت زوجته و هي تدلـله :
" كميلة ، أنت فين "
ابتسم كامل متخيلا أن أحد أفراد مجلس النواب استمع إلى اسمه الذي أطلقته زوجته، فهي احترفت الدلال الفلاحي ، بنت الأصول التي لم يغير من شخصيتها المنصب ولا الجاه فاسمها "أصيلة" و هي اسم على مسمى ,
طالما شعرت أصيلة أنها بنت أصول  ، بل لم يمر عليها يوما ،  لم تشعر فيه بتفوقها على كل من حولها ، و على الرغم من تفكك أسرتها الآن و تواجد معظم شباب العائلة في بلدان عربية و أجنبية للبحث عن مصادر رزق ، غير أن انتمائها إلى أسرة ذات ماض مشرف أكد هذا الشعور .
جاءت أصيلة زوجة كامل من أعلى الفيلا وهي تسير بنفس الفستان البسيط و الطرحة حول رأسها و كأن الزمن توقف عند الخمسينيات ، لم تكن تعلم أصيلة أن هذا المظهر البسيط جعل كامل  يستبعدها من اللقاءات السياسية والاجتماعية المختلفة خوفا من انتقاد البعض لها و لكن هذا المظهر لم يبعدها عن قلبه يوما ، فهي حياته و سنوات غربته ، التي حلم بها وهو وحيدا كل يوم.
نظرت إلى اللوحة وقالت بلكنة فلاحي بسيطة :
"أيوه يا عم محدش قدك ، بيرسموك غيابي كمان ، لا و إيه ماسك بندقية وبتحارب ، ماشية معاك ، ياريتني كنت في الحزب يمكن كانوا رسموني أنا كمان"
نظر إليها كامل بكل الحب وقال لها :
" ليتك تجمعي الأولاد فأنا أريد أن أقول لهم شيئا و آخذ رأيهم فيه "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ