الفصل التاسع عشر ، قلوب تتعجل البيع و الشراء


(19)
جلس "علي" ، الذراع  الأيمن لحنفي صاحب المستشفى المشهور و شركات الأدوية، جلس في منزله مع كومه من الأموال ، يحسب فيها ثم يعيد الحساب خوفا من وجود  خطأ ما ، فهذا المال ينقصه عدة أوراق مالية ، و هذا سيعرضه إلى التأنيب والمعاتبة من حنفي .
شعر " علي " بالعرق يتصبب من جبهته و يعبر فوق شفتيه ويتخللهما حتى أحس بملوحته ، ظل يتأفف و يتحدث مع نفسه ، ثم يعتب على الزمن الذي جعل حنفي يتحكم به وهو الذي رفعه إلى الأعلى ، فهو من كان يجلب له الحبوب بأنواعها المختلفة من منشط و مخدر لطلاب الجامعة وهو من عرض نفسه إلى الخطر من أجل المال الذي ينعم به حنفي الآن ، ثم  بعد ذلك يطالبه حنفي بكل قرش و ينعم هو بكل ملذات الحياة ، أما هو فعليه المعيشة في حارات فقيرة كل هذه السنوات .
تذكر "علي" حين طلب من "حنفي" أن يوفر له شقة في حي فاخر فرفض و ثار وأنبه أشد التأنيب لأنه يعرض عمليهما للكساد ، فهو من عليه جلب الأشخاص المتبرعون بأعضائهم للمستشفى  وأنه عليه ان يعيش تلك العيشة المتواضعة لانها هي  التمويه المناسب لجلب الراغبين في بيع أعضائهم .
نظر "علي" إلى شقته التي أقام بها منذ العام الماضي و لم يتعجب من أنه لا يذكر فيها إلا حجرة النوم التي يقضي فيها بعض من أوقات الليل ، فبقية المنزل لم يستخدمه بعد وقد يتركها قبل ان يتعرف على بقيته ، لقد قال له حنفي انه يجب أن يغير من محل إقامته كل فترة قصيرة  بعد أن يستنفذ كل مصادر المنطقة من متبرعين بالأعضاء ، أيضا عليه أن يبحث عن أماكن متطرفة يعيش أهلها دون حد الكرامة فتكون من مزايا وجوده معهم أنه يفتح لهم باب الرزق عن طريق بيع الأعضاء فيشيع بين الجميع أنه كلية الدكتور "حنفي" المشهور و صاحب المستشفى التاريخي هي في الاصل كليته وانه صاحب الفضل عليه في الحياة و لذلك فهو الطفل المدلل للدكتور حنفي ولا يستطيع ان يرفض له طلبا ، فلا يمر عليه شهرا في أي مسكن حتى يجد من يطرق بابه ليطلب منه تدبير بيع كلية  ، بل أحيانا -  لعجائب القدر-  يأتيه رجل يعرض عليه مقلتي إحدى والديه أن كانا على وشك الموت.
نظر "علي" إلى الأموال التي أخذها نظير كلية طفل مات في حادثة و لم يتعد الثامنة من عمره ولم يفكر في الأجزاء التي سلبت من الجثة الميتة بل نظر إلى المال و عاهد الشيطان على أنه سيبدأ العمل ، استجمع شجاعته كلها وقال :
" وحدي منذ الآن ، أنا وبس "
فهو يتذكر إلى الآن كل كلمة قالها له "مازن" حين كان يبحث عن متبرع لوالدته ، قالها هذا الشاب وهو لا يعرفني ، وجد الفارق في المعيشة بيني وبين حنفي كبير ، اين العدل .
بدأ يلملم الاموال من امامه وهو يتمتم :
"انا اللي طالع عيني و ما ادوقش في الآخر النعمة ، طيب و النعمة دي ما اسيبهاله المرة دي وعلي وعلى اعدائي "
جعل على يجمع الاموال ويضعها مصنفة الى اوراق مالية من نفس القيمة وهو يتمتم ويتذكر بداياته مع حنفي الذي وضعه على اول عتبة المشروع الحالي
إن أول قلبا باعه حنفي ، كان قلبا صغيرا لمريض يبحث أهله باستماتة عن متبرع ، إن متبرع القلب يجب أن يموت مقابل التبرع والمتلقي للتبرع  يمثل أفضل أنواع العملاء بالنسبة لهذا النوع من التجارة ، كما كان يقول حنفي ،  فهو يائس ، حزين ، مستعد أن يضحي بأمواله كلها في سبيل إنقاذ نفسه أو من يحبهم .
توقف على ليأخذ كأسا أعدها بعناية من اردأ انواع الخمر وجلس ينفث في سيجارته وهو يتذكر كيف بدأت تلك التجارة بفتح عيادة صغيرة في حي فقير يقوم فيها حنفي بدور الطبيب المعالج فيتعرف على حالة مرضاه الاجتماعية و المالية ويستطيع أن يحدد من يمكن الضغط عليه ماليا ومن يجب تجنبه لإثارته للمشاكل أو لكونه مثقفا او من عائلة متعلمة. 
اقترح حنفي حينذاك أن يبحث عن طفل مريض بالقلب ووالد يائس يبحث عن قلب سليم ، كان خطته دائما لا تخيب يبدأ بالعيادات الكبيرة في أمراض القلب وعلينا أن نصادق الممرض ونلازمه في العيادة والخطوة تلو الخطوة تقربنا من ذلك المريض اليائس او بالأحرى الأب اليائس الغني الذي يمكن ان يعمى عن اي شيء في العالم ويرضخ لأي ابتزاز .
نفث على الدخان وقال :
"انا اللي باراقب وانا اللي باعرف وانا اللي باوصل وهو في التكييف وانا اللي طالع عيني في الحر و القرف وباركب مواصلات ، قال ايه علشان الناس تصدق اني غلبان."
قالها وقام ليعيد ترتيب الاوراق لانه كان ضعيفا في الحساب ضعيفا في التفكير ومحدود الذكاء وهذا ما جعل حنفي يستغله على طول امتداد حياتهما مها ولذلك فالمهام الموكلة اليه لم تكن سوى مراقبة المرضى المختلف أعراضهم حتى يحظى بمعرفة الطفل مريض بالقلب المناسب للمعايير التي وضعها حنفي وهي ان ينحدر من عائلة غنية جدا وحالته تكون ميئوس من شفائها.
تذكر "علي"  الحالة الاولى لطفل حالته شبه ميئوس منها ، كان لا يزور العيادة بل يقوم الطبيب المشهور بزيارته في منزله فاستطاع أن يحصل على العنوان و البيانات المختلفة من فصيلة الدم والعمر وكيف انه أخبر حنفي بذلك ورأى في ملامحه السعادة التي لم يلمحها بعد ذلك وكيف ان المال الذي اخذه حنفي واعطى لاهل الطفل صاحب القلب الفتات لانه اقنعهم بان التجارة في الميت حرام وان المال الذي سيعطيه لهم من باب الصدقة و تلك كانت البداية.
استخدم حنفي كل ما وهبه الله من ذكاء لاستغلال البسطاء و لم يكن "علي" يجيد هذه اللعبة فهو بعده ساذج و بسيط مثل معظمهم و على الرغم من اقتناعه بأنه هو العقل الشرير المدبر إلا أن هذا الاقتناع لا يكفيه لأن يخطو خطوة في مجال الشر دون أن يسبقه فيها حنفي بتدبيره وذكائه.
أمسك "علي"  ببعض أوراق المئات في يده  و رجع بذاكرته للمئات التي كان يأخذها من بعض الأغنياء حين أقنعهم أن الدكتور حنفي كما أطلق عليه ، أنه وجد علاجا شافيا لبعض أمراض المناعة و لم يكن الدواء سوى جرعة "كورتيزون"  عالية التركيز أو بعض الأدوية الخاصة بالسرطان والتي تمنع الجسد من التفاعل لكي يقلل من الأعراض ، يضعها في كبسولات لكي يفهم الجميع أن دواء تم تركيبه في المعمل الخاص بالدكتور حنفي ويدفع المساكين و الأغنياء ثمن الدواء أضعافا مضاعفة ويلاحظ كل منهم أن النتيجة مذهلة و ولا يهمه ان يتعرض المريض لفشل في الكبد او الكلى فهو اعطاه العلاج السريع المفعول ويعلم ان الأعراض  الجانبية المخيفة لن تظهر  إلا بعد بضعة سنوات يكون فيها الدكتور حنفي في مكان آخر و محافظة أخرى.
أراد " علي" أن يتخلص من حنفي عدة مرات خلال حياته و لكنه كان في كل مرة يفاجأ بالجديد ، فعندما بدأ في تجارة الأعضاء أصبح على علاقة بالأغنياء و أصحاب السلطة و قويت شوكته و بات يمارس ضغوطا عليه أكثر من السابق فلم يعد يهابه أو يعامله كند له مثل سابق عهده ، بل أصبح رئيسا له .
سمع حنفي صوت رنين المحمول و نظر للرقم فأمسك مسرعا وهو يقول :
" أيوه يا مهدي باشا ، الفلوس ناقصة ألفين ، أنا أخذتهم  من صاحبهم من غير ما أعدهم ، أنا قلت ده ثقة من ناحيتك ، ولكن الظاهر مفيش أمان حتى من الناس الهاي "
قالها علي واعجب بنفسه انه يتحدث مع مهدي دون وسيط وقال :
" العب يا علوة مش محتاجك يا ابو حنفي "

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ