الفصل السابع عشر ، لاتسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسوؤكم


(17)
 دخل سليم الشاب الطموح الذي أراد أن يبدأ حياته العملية بكفاءته و بعيدا عن سلطة و جبروت والده كامل الشافعي عضو مجلس الشعب الشهير .
كان كامل يجلس في شرفة حجرة نومه في الدور الأول من الفيلا الفاخرة التي حصل عليها من مميزات انضمامه إلى الحكومة و الحزب الحاكم على الرغم من أنه لم تكن له مطامع مادية في بداية عمله في السياسة و كانت رغبته الأساسية في المشاركة في الحياة السياسية لاثبات ذاته أمام أهل زوجته و ليشعر بلدته الصغيرة أن عائلة زوجته ليست هي الحاكم الوحيد في المنطقة ،  لكن الحياة السياسية لها رونق و من الصعب أن تخرج من براثن اخطبوط السلطة و بالوقت تصبح المنافع التي تحصل عليها كأنها من صميم حياتك و نتائج عملك،  فتتعلق بها كالمدمن الذي يتألم من مجرد التفكير في الإقلاع عن مخدراته.
السلطة تعطي شعورا بالانتشاء لا يقدر عليها أقوى المخدرات ولا اجمل الفتيات الجميلات و البعد عنها يؤلم ولا تستطيع أقوى المخدرات أن تذهبه.
دخل سليم إلى الشرفة و في عقله مئة سؤال بعد مقابلته لعماد في الجريدة ، فهو يريد أن يعرف السر وراء رغبة والده في الاعتزال ، ثم أن عماد شككه في أن اللوحة الموجودة في حجرة المعيشة بالفيلا لها يد في هذه الرغبة ، كل هذا كان في عقله و لكنه بدأ بمداعبة والده و أمسك ببطنه وكرشه الممتد امامه  و هو يقول :
" مع كامل باشا ، حط في بطنك بطيخة صيفي "
ضحك والده ضحكة ضعيفة لأن عقله المشتت لم يكن ليركز في المداعبة الآن و نظر إلى ابنه نظرة حانية وقال:
" اتركني الآن يا سليم ، أنا في عقلي أشياء كثيرة ".
سأل سليم :
" تختص بقرار اليوم الجريء "
أجاب الأب :
" نعم فأنا لا أعلم إلى الآن كيف سأقوم بتنفيذه ".
سأل الابن :
"في يدك ألا تنفذه فلا داعي إلى التسرع ، أم أن هناك ما دفعك لهذا القرار ، هل شعرت بأنك ستلقى على رفوف السياسة قريبا ؟".
أجاب الأب بحزم :
" أبدا ، أنا في قمة المجد و لكن دائما هناك قرار حاسم في لحظة من مليون لحظة يجب أن تتخذه و أنا أشعر أن هذه هي اللحظة الحاسمة ".
ضحك الابن و قال :
" أنا اعتقد أنك مؤخرا أصبحت عاطفيا جدا و لعلك تريد التفرغ لوالدتي الحبيبة ، فهي تستحق أكثر من الاعتزال السياسي ، بل الاعتزال من كل شيء و التفرغ لها تماما ".
نظر الأب باندهاش :
" أنا ، عاطفي ، ما الذي جعلك تتخيل ذلك "
أجاب سليم بخبث و قال :
" جلوسك أمام اللوحة الفنية بالساعات و غيابك عن الدنيا لأكثر من يومين ، أنا أشعر أن اللوحة أشعلت فيك الرومانسية على الرغم من أنها ليست رومانسية بالمرة "
قام كامل من مجلسه و لم ينظر إلى سليم بالمرة و نادى على الخادمة لكي تقوم بإعداد القهوة السادة ذات البن الكثير و كأن سليم لم يسأل عن أي شيء بالمرة ، و قال له متسائلا :
" أين والدتك فأنا جوعان و أريد أن نتعشى مثل الأسر كلها حول مكان واحد ".
علم سليم أن والده لا يريد الدخول في هذا الحديث فتركه و هو مبتسما دون أن يعلم أن كامل يريد أن تبتلعه الأرض قبل أن يعلم أولاده و بالأخص سليم بقصة اللوحة ، فهو يسترجع اللحظة التي دخل عليه فيها "أبو كفاح " الفلسطيني مصاحبا لوزير من وزراء الداخلية في وزارة من الوزارات إلى مكتبه ضاحكا باشا في يوم من أيام الربيع ، فقد أبلغه وزير الداخلية أنه بالجوار و يريد أن يعرفه على رجل الأعمال الفلسطيني " معد " .
قابل كامل الوزير بكل إجلال كعادته الدبلوماسية و لكنه لاحظ أن أبو كفاح ظل يمدح فيه و يبارك اليوم الذي تعرف عليه فيه و لم يكن كامل ممن يستسيغ المديح فذكاءه الحاد يمنعه من أن يصدقه .
جلس أبو كفاح و كانت الجلسة كلها حول دعم مصر في النضال و إخراج الإسرائيليين من الأراضي الفلسطينية و كيف أن الشباب الفلسطيني يموت كل يوم بيد الجنود دون أن تعطيهم الحياة الفرص المتكافئة للحرب ندا بند
لم يشارك كامل في هذا الحديث مع وزير الداخلية و رجل الأعمال الفلسطيني ، فهو يحرص كل الحرص على عدم إبداء رأي قد يضع الحكومة في مأزق و لكنه وجد أن وزير الداخلية يشارك بحرية في الحديث و كأنها جلسة ودية بين بعض الأصدقاء ، ولكنه أيضا لم يستطع أن يتحدث لأنه كان في مكتبه.
دعا وزير الداخلية رجل الأعمال للعشاء لدى فيلا كامل دون استئذان منه كما لمح بأن تلك الفيلا الجميلة من مزايا الحكومة ،  أنهيت الجلسة بأن تواعدوا على اللقاء مساءا عند كامل في مارينا .
أيقن كامل أن هناك مصلحة ما يريد أن يحققها معالي الوزير و يصر على إشراكه فيها و بالفعل لم يخب ظنه فقد بدأ الوزير في الحديث عن توزيع الثروات و أن ثمانون بالمئة من العالم يمتلكون عشرون بالمائة من الثروة و أن المال هو الذي يحرك العالم و ظل كامل يتعجل الحديث ليعلم إلى أين ينتهي و وصل في النهاية إلى التجارة بالسلاح هو الوسيلة الحلال الوحيدة التي يمكن أن تصلك إلى الملايين وبسرعة الطلقة ، لكن ما دخله هو بالسلاح .
أكمل رجل الأعمال الفلسطيني بحاجة الشباب الفلسطيني إلى الدفاع عن عرضه وشرفه و ماله و أثار الحماس في عروق كامل حتى تخيل أن إسرائيلي يدخل عليه في منزله ليهتك عرضه و يدنس شرفه و تحول خلال الحديث من دبلوماسي محنك إلى أب عاطفي ، و حينها نظر رجل الأعمال الفلسطيني إلى الوزير نظرة المتفاهمان.
قام كامل بالاعتراض على الدخول في جوانب حرب سواء ضد أو مع مصر ، فقام رجل الأعمال الفلسطيني بالتأكيد على أنه لا يجلب سلاحا للمقاومة على الرغم من حقهم في الحصول على السلاح و لكنه يريد أن يعطيه لبعض الأفراد في الصعيد للدفاع عن أنفسهم.
انتهت السهرة بأن وعد كامل بتسهيل صفقة أسلحة سيتم استيرادها لصالح البوليس المصري و الذي بدوره سيقوم بتوصيله ليد رجل الأعمال الفلسطيني  مع الادعاء من جهة وزارة الداخلية  بأن  هذه الأسلحة قد تم استخدامها كذخيرة حية في التدريبات الخاصة بالأمن المركزي .
لم يحتاج وقتا كبيرا ليعلم أن السلاح الذي مهد له و أخذ نصيبه ،   ذهب لجماعات متطرفة منها من قتل سائحين و منها من قتل أهل مصر و لم يسامح الوزير الذي أدخله في هذه الصفقة ، رغم أنها وفرت له سيولة نقدية كبيرة في حساب له بالخارج
استمر رجل الأعمال الفلسطيني في علاقته بكامل و أدخله في أكثر من صفقة بعد ذلك و كان يلمح له في كل مرة أن دخوله معه كدخوله في جحر الثعبان ، لا يستطيع أن يخرج منه إلا بإذن الثعبان شخصيا.
لم يكن أبو كفاح هو الشريك الوحيد ، ولم تكن تلك الصفقة هي الصفقة الوحيدة المشبوهة التي اشترك فيها كامل و إن كانت من أسوأ الصفقات ، فهناك من شاركه في تجارة قطع غيار للسيارات و اكتشف بعد ذلك أنها تضر البيئة و شارك في شراء بعض الأجهزة الطبية التي اثبت أنها مشعة وغير آمنة ، و بعض القطارات التي لم تعد تستخدم في بلدان أوروبا لقدمها وتهالكها وعبارات انتهت صلاحيتها .
كل هذه الصفقات كانت تتم باستخدام اسمه المعروف في أوساط الجمارك و الجهات الرسمية لترهيب صغار الموظفين و لتقليل تداول الأوراق الرسمية و ما يتبعها من تسهيلات سواء في القيم الجمركية أو الرقابة على الجودة.
جلس كامل يفكر كيف أنه لم يستسغ ظلم أهل زوجته له في بلده ولكنه يستسيغ  الآن ظلم الناس كلهم بكلمة صغيرة منه ، بعد أن نظر إلى اللوحة و تمعن فيها بدأ  يشعر بثقل الأمانة و الثقة التي أعطاها له أهل بلدته ، ماذا لو علم أي منهم بما يفعله الآن ، لقد تحجرت مشاعره لسنوات عديدة ، كل ما كان يفكر فيه هو إيجاد مصادر أخرى لتعظيم ثروته من الصفقات المختلفة والتي لم يقم فيها بخطوة واحدة ولكنه اكتفى بان يعطي الموافقة وان يكون احد مؤسسي الشركة المستوردة للمنتجات وكان يتابع ما هي تلك المنتجات .
كان يسعده وصول نصيبه من كل صفقة تتم وفي البداية كان يأخذها اموال سائله سواء بالدولار او الاسترليني ومع مرور الوقت لم يعد يخاف من المتابعة فاصبح يأخذه بتحويل على بنك دولي يمكنه من استخدامه في الخارج مباشرة أو بشيك لصالحه وكأن البلد كلها ومصر كلها اصبحت قرية صغيرة هو عمدتها كل هذا لأنه تمنى أن يكون لديه من المال ما يغني أولاده ويبعدهم عن الفقر و العوز مدى حياتهم.
انتبه كامل ليجد سليم بجواره وهو ينظر اليه مداعبا  :
" يا حاج ، لقد سرح فكرك و أنت معي ، ما الخبر "
قال كامل :
" لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم "
انتهز سليم الفرصة و قال :
" أنا أريد أن تسؤني ، فأنا إعلامي يا حاج ، أريد أن أعلم ما يسوء لكي أحسنه ، أرجوك أشركني في  هذا الموضوع فأنا أريد أن أبدأ حياتي الفعلية بأن أصحح ما يسوء"
نظر كامل لسليم و أخذه بجواره و قال:
" أنا أحب حماسك و لكني أشفق عليك ".

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ