الفصل العاشر ، بيت العائلة الكريمة


(10)
وافق شريف على الإقامة المؤقتة مع عماد لأنه شعر أن وضع مجدي المادي لا يسمح له بالبقاء معه و الاعتماد عليه ماديا ، و إلا لكان عمل محاميا بشهادته وليس سائقا لعماد ، استحسن مجدي ذلك لأنه كان سيضطر أن يصرف من مدخراته لكي يحسن ضيافة شريف حسب ما اعتاد عليه من والده .
لم يقم مجدي مع شريف في حجرة الضيوف لأنه كان عليه العودة إلى منزله ومراعاة والده لأن أخويه لا يعتمد عليهما بالمرة.
أراح شريف أن حجرة الضيوف لا تفتح على المنزل و لكنها تمثل جناحا خارج المنزل و تفتح على الحديقة وهو بذلك سيشعر بحريته التي اعتاد عليها و لن يشعر بأنه متطفلا على العائلة ، استطاع شريف أن ينام بعمق إلى اليوم التالي.
خرج شريف  صباحا لكي يشتري ملابس من المحال القريبة من منزل عماد، تمكن من أن يأتي بما يمكنه من البقاء فترة لدى عماد ، كما مر على إحدى نوافذ البنوك ليأخذ بعض من المال  .
اشترى بعض الفول الساخن و الفلافل مع الخبز الطازج كما اعتاد في حياته الخاصة في العوامة وأراد أن يشارك عماد في إفطاره ليقترب منه قليلا ، شكرا منه على حسن الضيافة .
ضرب الجرس على الرغم من أن باب الفيلا مفتوح و وجد سيدة طيبة تسير بميل من آثار آلام الروماتيزم وصلت إلى الباب الحديدي و المغلق بزجاج سميك و أمسكت بالباب المفتوح و قالت :
" صباح الخير يا بيه تفضل ، أستاذ عماد سيأتي حالا "
لم تسأله الخادمة عن اسمه وأجلسته في الصالون وهي لا تعلم أنه كان ينام في الحجرة الخارجية لنفس الفيلا وعادت إلى الداخل.
تعجب شريف أشد العجب لأن السيدة أدخلته دون أن تستفسر حتى عن مقصده ، فهو اعتاد في منزله على ألا يأتي أحد للزيارة إلا بموعد و لا يدخل أحد من الزوار إلا لو تم استئذان أهل البيت ، تلك البروتوكولات تربى عليها لأن والدته الإسكندرانية الأصل ، تربت هي الأخرى على ذلك.
تعجب شريف أيضا حين دخل إلى الصالون فقد  رأى أن منزل عماد يتميز بالخصوصية الشديدة فالصالون لا يكشف سوى جزء بسيط من مدخل المنزل ، كما إن حجرة الضيوف لا تكشف سوى جزء من الحديقة و لم يكن يعلم أن الجد الكبير كان له صالوناته الأدبية و لقاءاته المختلفة وصمم هذا المنزل بحيث لا يكشف حرمة منزله و في نفس الوقت يمارس نشاطه الاجتماعي في المنزل.
كانت جدة عماد هي الأخرى تستقبل سيدات المجتمع لديها لكي يساهمن في الأعمال الخيرية التي كانت كل حياتها لأنها لم ترزق إلا بطفل واحد ، أصر على أن يلتحق بكلية الحقوق لكي يصبح مثل والده المحامي والشاعر الشهير صاحب الصالونات الأدبية  و بالفعل فقد أصبح والد عماد نقيبا للمحامين و استغل التصميم المعماري المتميز في استقبال المحامين في منزله دون أن يجرح أهل البيت .
جلس شريف في الصالون الأنيق و الذي اختلف في ذوقه عن صالون مجدي فهو إنجليزي الطابع و أجزاءه منتشرة و مصمم بحيث يكون لكل ركن طابعه الخاص ، أما صالون مجدي ، فكان فرنسي أصًيل ممتلئ بالتحف القيمة التي غلب عليها اللون الذهبي و قطع النحاس المنحوتة بدقة.
سمع عماد ترحيب أم محمد بالضيف فأسرع ليلبس و يهبط لاستقبال الضيف وكانت عادته أن يأخذ القهوة المخصوصة في تراس حجرة النوم مع  زوجته و حبيبته و معهم ابنته الجميلة الرقيقة و لكن اختلفت تلك العادة مع وجود زائر بالمنزل ، أسرع بالنزول ليرى من القادم .
دخل الصالون ليرى شريف فضحك ونادى أم محمد قائلا :
" تعالي هنا يا أم محمد ، هذا ليس ضيفا يا أم محمد ، هذا شريف باشا ، سيقيم معنا الفترة القادمة ".
نظرت أم محمد إلى الضيف و كأنها تعاير مقدار العمل الزائد الذي سيسببه لها ، فهي تعلم مدى كرم عماد و كيف أنه سيطلب منها إعداد الوجبات الخاصة بالضيف و ما أثلج قلبها أنه ضعيف البنية قصير الطول فهو ليس أكولا مثل ما سبقه من الضيوف المقيمين.
"أجيب لك حاجة تشربها يا بيه "
قالت ذلك أم محمد وهي تسير إلى المطبخ فهي من أهل البيت ، جاءت من الريف منذ طفولتها حين كان الأهل ينجبون كثيرا من الأطفال ،  لأن كل طفل جديد  يعني دخلا ثابتا ، فالبنات يذهبن إلى الأسر التي تبحث عن خادمات و الصبيان يكونون يدا إضافية في الحقل وكان نصيب أم محمد أو نظيفة كما أطلق عليها والدها أن تذهب إلى والد عماد.
كانت نظيفة صبية هادئة و خجولة جدا و لم يعطها الله جمالا يعتد به ولكن لديها قبولا طبيعيا فالكل أحبها و أحسن معاملتها ، ولكن مع مر السنوات ووصول سنها إلى المراهقة و رغبتها في الزواج و خجلها من إعلان هذه الرغبة و سماعها ببعض الأمور الجنسية من مثيلاتها في السوق ، قررت أن تجرب يوما ما استخدام بعض من المتوفر من الأشياء التي تساعدها على بعض العادات القبيحة و السيئة.
لسوء حظها فقد انكسرت خيارة داخل جسدها و ذعرت و جرت إلى ربة المنزل لتساعدها في حل المشكلة ، خاصة وأنها ذهلت من نزول كم من الدماء شديد و بأدب شديد أخذت السيدة السيارة بنفسها إلى مستشفى قريب و تم معالجة المشكلة ولم يقم أحد بالحديث عن هذا الحادث بعد ذلك و أخبرت نظيفة والدة عماد أنها لن تتزوج و ستظل معها إلى الأبد ، و بكت كثيرا و هي تترجاها خوفا من إرسالها إلى البلد ، لأنها ستكون فضيحة لو تزوجت و علم أحد أنها لم تعد بكرا .
 كان لزاما على الأسرة أن تدفع لأبيها مبالغ كبيرة لإقناعه بمكوثها بعيدا عن أهلها إلى أن سافر والدها إلى العراق ولم يسمع عنه أحد بعد ذلك و تمكنت أمها من الطلاق منه ثم  تزوجت رجلا آخر و طوت الحياة نظيفة فلم يعد يسأل عنها أحد فاعتبرت أن أسرة عماد هي أسرتها و عاش الجميع متقبلون تلك الفكرة .
بعد فترة من الزمان و تكريما لسنها أطلق عليها الجميع اسم أم محمد و كأنها أرملة أو مطلقة ، حتى لا يسألها أحد عن سبب إضرابها عن الزواج و أصبحت علامة مميزة إلى الأسرة و لكنها مع الزمن و تقدم العمر لم تعد تساعد مثلما اعتادت و أصبحت بمثابة مربية أطفال بل  صاحبة منزل.
نظر عماد لأم محمد و طلب منها إعداد إفطارا شهيا لشريف فأبى وأبلغه أنه فطر في الخارج و أنه لم يرد أن يأكل وحده الفول الساخن الجميل و الفلافل المحبشة فأحضر له و لعائلته بعض منها فشكره عماد .
طلب عماد مجدي في المحمول ليرى ما الذي أخره عن المجيء و اكتشف أن مجدي في الخارج منتظرا منذ الصباح الباكر ، لم يرد أن يتطفل أو يتجرأ على عماد ، حتى ولو كان من عائلة أعرق من عماد و ضحك عماد وهو يقول له :
" فينك ، لدينا عمل ، تعال حالا فقد حدثت مفاجأة صباحا "
في لحظة كان مجدي معهما في الصالون و كانت تلك أول مرة يدخل فيها مجدي لمنزل عماد و أعجبه الذوق العام للمنزل الذي غلب عليه الطابع الإنجليزي قاتم اللون مليء بالخشب البني المجلد لمعظم الحوائط و ذلك لأنه لم يكن يحب البهرجة الشديدة في منزل أهله المليء بالتحف النحاسية و الفضية و الكراسي المذهبة .
قال مجدي بشغف :
" ما المفاجأة ؟"
قال عماد بطريقة سينمائية :
" اسمعا هذا الخبر ، كلمني  ابن كامل الشافعي اليوم صباحا لكي يخبرني بأن لديه خبر و سبق صحفي و أنه يريد مقابلتي".
سأل مجدي :
" وهل تعرفه حضرتك "
أجاب عماد :
" إنه يتدرب عندي في الصحيفة و هو من الشباب النشيط المليء بالحيوية  و لكن أنا أريد الآن أن نبدأ في وضع خطة عمل الفترة المقبلة "
لم يشارك شريف في الحديث لأنه ليس له خطة عمل و لا يريد أن يكون له ، فهو يريد أن يستيقظ يوما لجد أن ما حدث ما هو إلا كابوس استيقظ منه فيجد نفسه في مرسمه مرة أخرى مع ألوانه ولوحاته و بدون إزعاج .
قال مجدي :
" يجب أن نستدعي مازن صديق شريف لنعرف منه التفاصيل "
نظر شريف بحدة إلى مجدي و قال :
" تستدعي ، ما الذي تقولوه ".
ضحك عماد وقال :
" ألن تتراجع عن لغة وكلاء النيابة يا مجدي "
و صحح المقولة لشريف بطريقة المحاور :
" هل ممكن أن نتعرف على مازن ، فهو مهم جدا بالنسبة لنا في معرفة الخلفية المطلوبة للأشخاص الذين سلم لهم لوحاتك ".
قام شريف بأخذ قلم من الأقلام الكثيرة المنتشرة حوله فالأقلام أكثر من الشيكولاتة والحلوى  و سحب ورقة ملونة بجوار القلم وموضوعة في وعاء خاص بالأوراق و كتب رقم هاتف مازن المحمول و لكن عماد من خبرته في الحياة علم أن مازن لن يجيب على أي مكالمة من شخص مجهول الهوية ، فقال لشريف :
" هل ممكن  أن تتحدث معه و تخبره بأن يلاقيك هنا "
أخرج شريف المحمول من جيبه ليجد أن شحنه قد زال فهو لم يحسب حساب إقامته بعيدا عن مملكته ،  تدارك عماد ذلك فنادى على أم محمد لتأتي بالشاحن من أعلى لأنه لاحظ تشابه هاتف كل منهما ،  ثم أعطى شريف المحمول الخاص به ليتحدث مع مازن و اتصل شريف ولكن مازن لم يجب كما توقع عماد فاقترح على شريف إرسال رسالة من الهاتف يخبره بأنه صديقه شريف و أنه يريد مقابلته
أرسل شريف الرسالة واتصل مازن فور وصول الرسالة له على رقم الهاتف ، سمع شريف صوته وهو يقول:
" أنا  قلق عليك يا بني  ، أين أنت و من أين تتحدث ؟".
تحدث شريف مع مازن و أخبره بأن يوافيه لدى عماد  و شرح له شريف العنوان ، لم ينس أن يصف له شكل الشجرة الضخمة التي تقف شامخة أمام الفيلا ، ابتسم عماد لدقة وصفه ، فهو لم يلاحظ أن الشجرة قد شمخت لأنه رآها منذ كانت تصل إلى الدور الأول و كانت تداعب نافذته و لكن السنوات تمر سريعا .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ