الفصل الثاني - قصة يوم الخميس - الشنطة الزرقاء

الفصل الثاني

ذهبت نازلي لتحضر الكوتشينة  وبحثت في الحجرة المليئة بالاثاث على خلاف معظم الحجرات الاخرى التي تكاد تكون خالية من الاثاث وفتحت الدولاب وظلت متوقفة امامه ويكاد قلبها يخرج من بين ضلوعها
ماذا اتى بهذا القلم هنا انا لم اضعه ابدا ، انه كان في الشنطة الزرقاء فهي لا تلمس ما في الشنطة الزرقاء ابدا وان كانت تأخذها في كل مكان
جلست من هول المفاجأة وسكتت قليلا ثم بدأت في البكاء المكتوم وكان روحها تتمزق قطعا صغيرة
تذكرت نازلي حين كان يمسك ابنها بهذا القلم ويرسم لها اصدقاءه وهي تضحك من المبالغات التي يضعها لكل واحد منهم ، هذا كبير الانف وذاك دقيق الشفاه وهي تطلب منه المزيد
لم تضحك نازلي من قلبها منذ رحل ابنها مع والده في حادث السيارة  فقد دهست السيارة قلبها قبل ان تدهس الفتى ، وعلى الرغم من انها طبيبة نفسية مشهورة الا انها توقفت عن علاج المرضى وقررت بينها وبين نفسها انها ستعود لممارسة الطب مرة اخرى اذا استطاعت ان تعالج نفسها من الم فراق زوجها وابنها
كان قرار الدخول الى دار المسنين قرارا جريئا اخذته بعد سفر ابنتها بعدة اسابيع فهي الآن وحيدة بكل المقاييس ولا يملأ حياتها احد ولا حتى اخوتها من ابيها
وجود نازلي في الدار كان قرارا مدروسا قامت باعداد السيناريو الخاص به منذ توفي ابنها وزوجها وكانت تنوي ان تقيم على الاقل سنة تتمالك فيها نفسها وبعدها تقرر اذا كانت ستعود مرة اخرى الى العيادة والحياة المليئة بالقرارات والتحليلات ام ستظل تنعم بهدوء وسكينة بين سيدات من سنها او اكبر
سرعان ما تمالكت نفسها لانها تعلم ان السيدات ينتظرنها فوضعت القلم  مرة اخرى داخل الدولاب بعد ان قبلته واخذت الكوتشينة التي اشترتها لها ابنتها الجميلة الرقيقة صاحبة اجمل ابتسامة كما كانت دائما تداعبها بذلك وخاصة ان ابنتها منال  كانت سمراء اللون ودائما تشعر بانها اقل جمالا من الكل فالاسرة لونها ما بين الابيض والقمحي ولكن سمرة منال كانت لجدتها والدة والدها ولم تتقبل منال هذا الاختلاف وهي الآن في امريكا تكمل دراستها وتعتمد كليا على نفسها لكي تثبت لنفسها انها تستطيع ان تكون مستقبل لنفسها بنفسها مستقلة بقراراتها وان اموال الام وشهرتها لن تكن هي نقطة التميز لها وانما شخصيتها هي الاساس
اصدرت نازلي اهه اخرجت بها بعض من الالم المخزون لفراق الكل وبعدهم عنها وتركت الحجرة وسارت في اتجاه السيدات  لتجد الممرض عويس وسطهن و كل واحدة منهن تعطيه بعض المال ليحضر لها شيئا مختلفا ، فزينب أعطته ليشتري لها دواء مسكن ، وصفية أرادت علبة تبغ ورشيقة أرادت حلوى نعناع و نجية طلبت كارت لشحن الهاتف و أخرى أرادت كارت للتحدث مع المحافظات  وأخرى طلبت بسكوت خاص للحمية و كتبت له اسمه على ورقة لعلمها بأنه لن يأتي بما طلبت لأنه تلعثم في اسم البسكوت مثل كل مرة.
وصلت نازلي الى مجتمع السيدات ووقفت تنتظر ان يكمل عويس كل طلبات الهوانم
نظر عويس لنازلي قائلا :
" عايزة حاجة من برة  يا هانم "
نظرت اليه نازلي وعلى وجهها علامات الاندهاش
"حين ارغب في شيء سأخبرك والآن اذهب سريعا واحضر الاشياء واتركنا
اعتادت نازلي ان تعطي الاوامر للممرضين فهي اصبحت  مديرة مستشفى من المستشفيات الحديثة لعلاج الادمان والحالات النفسية منذ عدة سنوات وكان كل من في المستشفى يأتمر بأمرها ولم تزل تشعر بنفس الشعور في هذا الدار فهي وصلت منذ ايام ولم تعتاد على ان تتساوى مع الجميع
بعد ان سار بعيدا نادته
اسمع اريد ان تحضر لنا كاكاو دافيء للجميع واخرجت من جيب البنطلون الذي كانت ترتديه مبلغا وسعت عين عويس حين رآه وقال
حالا يا هانم
 نظرت نازلي للجميع و قالت :
" ركزوا معي ، لعبة التخمين تحتاج تركيز "
قامت زينب و هي تقول :
" ما التخمين الذي تريدينه ، نحن لسنا في حالة تسمح بالتخمين ، لعلك جديدة هنا وتريدين تحريك الأجواء و تريدينا لعبة تلهين بها ، ألم نقل لك أن آخر ما نستطيع اللعب به هو لعبة الشايب ، ألا تفهمين ".
اتسعت حدقات السيدات ، فهن لم يعتدن على أن تكون زينب بهذه العصبية ، فإنها أكثرهن رحابة صدر ، و أقدرهن على احتواء المواقف ، بل إن زينب كانت صدرهن الحنون  وما تفعله الآن ادهشهم
نظرت صفية لزينب و تعجبت ، ثم قامت بجوارها لتطيب خاطرها و تحثها على الجلوس و أكدت لها أنها لن تلعب لعبة التخمين ، بل ستجلس فقط و أن صفية هي الأخرى لن تلعب معهن .
في نفس الوقت ، قالت فاطمة لنازلي محاولة منها لأن تضيع تأثير هياج زينب :
" أنا سألعب معك أنا و نادية ".

اعتادت رشيقة أن تأخذ نادية معها في كل مكان و في كل نشاط ، بل لم يكن من حق نادية أن تعترض ، فهي ذات شخصية ضعيفة يمكن لرشيقة أن تحركها كما تشاء .
حاولت نازلي أن تتجنب النظر لزينب و صفية حتى لا تشعر بالغضب و قالت ينقصنا واحدة فقط ، فلعبة التخمين تحتاج إلى أربعة .
نظرت فاطمة للسيدتين الجالستين بجوارها و قالت :
" واحدة منكم يجب أن تدخل معنا لنكمل العدد ".
قامت نجية من كرسيها مسرعة قبل أن تطلبها فاطمة بالاسم وسارت للحديقة و قالت :
ليس لدي مكان في رأسي لأركز ، دعوني أنا "
بقيت كرم ، فقالت :
" لا مانع لدي من أن ألعب ، فلقد قرأت في الجريدة ، أمس الأول أن استخدام العقل في النهار يؤخر ضموره على كبر ، فلعلنا لو استخدمناه الآن ، أن يمنعنا من الألزايمر ، فأنا الآن أصبحت أنسى بسهولة ".
نظرت زينب تجاهها وقالت بتنهيدة :
" يا لحظك ، هل النسيان كارثة ، إنه أجمل نعمة أنعم الله بها علينا ".

قالتها وهي تتنهد و تخرج الهواء من داخل أعماقها و كأنه يحمل معه حزن السنين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

علامة الاذن التيسير

يجب التمهيد لوجود برص في البيت

الانسان تاريخ